ما تصنع السياسة ..

77269005-d2f5-4922-9b61-f41cdc8d908a
حجم الخط

أخيراً، وبعد مرور أكثر من عام على اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني وأعوام على تخلي الاحتلال الإسرائيلي عن التزاماته تجاه ما تضمنته اتفاقية أوسلو، أخيراً تتخذ اللجنة التنفيذية أو بالأحرى القيادة الفلسطينية قراراً بالتنفيذ الفوري لقرارات المركزي. وفق التصريحات، فإن التنفيذ يبدأ من ملف التنسيق الأمني، الذي يتطلب وفق «قرار التنفيذ الفوري»، بحث الآليات، ما يعني أن الأمر لا يزال يدور في نطاق التهديد وإلا لكانت إسرائيل اتخذت من المواقف والإجراءات العقابية ما يفيض عن أهمية «التنسيق الأمني» الذي لطالما اعتبرته إسرائيل عاملاً مهماً في حماية أمنها. إسرائيل قابلت هذه القرارات ببرود يقترب من التجاهل، ما يشير إلى استمرار منطق التردد على السياسة الفلسطينية عامة. ولكن وبغض النظر عما إذا كانت قرارات القيادة الفلسطينية التي صدرت باسم اللجنة التنفيذية بحضور عشرات القيادات، بغض النظر عما إذا كانت تنطوي على جدية كافية وحاسمة، أو على تردد، فإن الإقدام على تغيير طبيعة الشروط التي تعمل وفقها السلطة بما يغير من وظيفتها المعروفة وفق مقاسات أوسلو، فإن مثل هذه القرارات تعني الانتقال إلى مرحلة نوعية جديدة في الصراع. شخصياً، لا أعرف كيف يمكن اتخاذ مثل هذه القرارات المهمة والخطيرة في ظل استمرار الوضع الفلسطيني على ما هو عليه. ومن وجهة نظري، فإنه على الرغم من خطورة استمرار السلطة في العمل وفق الوظيفة المحددة لها بموجب اتفاقية أوسلو، إلا أنني ما كنت لأرى صوابية التغيير في ظل الظروف المأساوية الصعبة التي يعاني منها الوضع الفلسطيني الراهن. صحيح أن القيادة الفلسطينية تأخرت كثيراً في الإقدام على اتخاذ مثل هذه القرارات، ذلك أن إسرائيل أقدمت على التنصل من التزاماتها الأوسلوية قبل سنوات كثيرة، وكان مثل هذا التأخير له علاقة بسياسة سحب الذرائع وإقناع المجتمع الدولي بمسؤولية إسرائيل الحصرية عن تعطيل عملية السلام. غير أن هذا التأخير طال كثيراً، واستنزف زمناً طويلاً استغلته إسرائيل في تنفيذ مخططاتها، وترسيخ المزيد من الوقائع العنيدة والصعبة التي تجعل من هدف تحقيق رؤية الدولتين، أقرب إلى المستحيل، فيما تتحرك الأوضاع الفلسطينية من سيئ إلى أسوأ. خلال هذه الفترة من السنوات، دفع الفلسطينيون أثماناً باهظة، دون تحقيق إنجازات توازي أو تقارب الثمن المدفوع، إلى الحد الذي يملي على الكل الفلسطيني إعادة النظر جذرياً في المشروع الوطني المشخص والمعروف حتى الآن. كان يمكن أن يكون هذا التأخير جزءاً من إستراتيجية فلسطينية وطنية شاملة، تتطلب تكتيكاً مدروساً لمرحلة من الوقت يعاد خلالها بناء عناصر القوة الفلسطينية لكن هذا لم يحصل. على المستوى الإقليمي والعربي الأوضاع معروفة، حيث إن القضية الفلسطينية فقدت الكثير من وهجها، ومن مكانتها وافتقدت قوة الدفع الإيجابية، أما على المستوى الدولي، فالحال أفضل قليلاً رغم كل ما يقال عن تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية. على المستوى الدولي، ثمة تقرير سيصدر أوائل الشهر القادم عن الرباعية الدولية، يلحظ مسؤولية إسرائيل عن فشل عملية السلام، ويتضمن مواقف معقولة من السياسة الإسرائيلية الاستيطانية وهذا أمر جيد نظرياً على الرغم من أنه لا يرقى إلى مستوى التشخيص الموضوعي لهذا الملف. وعلى المستوى الدولي أيضاً تتسع دائرة المقاطعة بأشكال مختلفة لإسرائيل، وتتسع ظاهرة الوعي الاجتماعي والسياسي لطبيعة الصراع، ونحو تفهم حقوق ومطالب الفلسطينيين. وكذلك على الصعيد الدولي، ثمة مبادرة فرنسية توافق عليها القيادة الفلسطينية بينما ترفضها إسرائيل، الأمر الذي سيحفز بعض الدول الأوروبية لاتخاذ مواقف وسياسات إيجابية لصالح فلسطين ومغضبة لإسرائيل. كل هذا صحيح، وأكثر من هذا، ولكن السؤال هو: هل يترجم المجتمع الدولي كل هذه التطورات إلى مواقف عملية ضاغطة على إسرائيل أم أن الولايات المتحدة تتجه نحو زيادة المعونات العسكرية لإسرائيل وتواصل سياسة تبني ما يقوم به الاحتلال؟ الخلل الخطير هو ذلك الذي يتعلق بالساحة الفلسطينية الداخلية، والسؤال هو: كيف يمكن رفع وتيرة الصراع من قبل القيادة الفلسطينية فيما القلعة الفلسطينية ضعيفة من داخلها، هشة، متصارعة يضرب فيها الانقسام حتى نخاع العظم؟ من يقرر رفع وتيرة الصراع عليه أن يستعيد الوحدة الوطنية ووحدة القرار الوطني، وعليه أن يعيد بناء المؤسسات الفلسطينية القيادية من منظمة التحرير إلى السلطة وعليه أن يستعيد الثقة بالمجتمع الفلسطيني، الذي يتعرض للتجاهل والتهميش كل الوقت. ومن يقرر رفع وتيرة الصراع، عليه أن يطلق طاقة الانتفاضة، بما أنها انتفاضة سلمية وشعبية، ضد الاحتلال، وأن يكون ذلك في إطار إستراتيجية وطنية شاملة متفق عليها من قبل الكل الوطني، ومن يقرر رفع وتيرة الصراع عليه أن يرمم العلاقات المتدهورة مع المحيط العربي، خصوصاً دول الطوق والدول الوازنة في المنطقة، في محاكمة القرارات المشار إليها. يصدق القول الشائع: «أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك أستعجب»، والحقيقة هي أنه إذا كنا نحن الوطنيين الفلسطينيين لا نصدق فكيف لنا أن نتوقع من الاحتلال أن يصدق ما يسمع، وهو يرى أشياء متناقضة؟