عمدة لندن الجديد

1-7-300x202
حجم الخط

انتخب اللندنيون قبل أسبوع مرشح حزب العمّال "صادق خان"، كأول عمدة مسلم لأكبر عاصمة أوروبية، وكان "خان" قد تولى منصب وزير النقل والمواصلات، ليكون أول مسلم ينضم لمجلس الوزراء البريطاني. "صادق خان"، يبلغ من العمر 45 عاما، وينحدر من أصول باكستانية، عمل والده سائقا لحافلة عمومية، فيما عملت أمه خيَّاطة، حين هاجرا إلى لندن بداية السبعينات، وأقاما حينها في شقة متواضعة وفرتها لهما بلدية لندن. ما أهمية ذلك؟ وما هي دلالات هذا الخبر؟ وهل هو الوحيد في هذا المضمار؟ "نجاة بلقاسم"، مغربية هاجرت إلى باريس مع والدها وهي في سن الخامسة، وحصلت على الجنسية الفرنسية حين أكملت الـ18 عاما، لتدخل بعدها المعترك السياسي، وتواصل مشوارها حتى تصبح الناطقة الرسمية باسم الحكومة، ووزيرةً لحقوق المرأة، ثم وزيرة للشباب والرياضة. و"نجاة" ليست أول إمرأة من أصول مغربية تنضم للحكومة الفرنسية؛ فقد سبقتها "مريم الخمري"، التي شغلت منصب وزيرة التربية والتعليم العالي، و"رشيدة داتي" التي شغلت منصب وزيرة العدل. وفي هولندا، تولت "خديجة عريب" رئاسة البرلمان الهولندي. وفي بلجيكا، أُنتُخبت "نادية سمينات" عمدةً لمدينة لوندرزل. وأيضاً، أُعيد انتخاب "أحمد بوطالب"، للمرة الثانية عمدةً لمدينة روتردام، العاصمة الاقتصادية لهولندا، فيما عُيِّن "رشيد مضران"، وزيرا للعمل الاجتماعي والتكوين المهني ببلجيكا (وهؤلاء من أصول مغربية). وفي رومانيا عُيِّن الطبيب الفلسطيني "رائد عرفات" وزيراً للصحة، وفي إسبانيا فازت "نجوى ألبا"، وهي من أصل مصري، بعضوية البرلمان، وهي في سن ال25، لتصبح أصغر النواب سناً. أما في ألمانيا فقد عُينت "سوسن شبلي"، وهي من عائلة فلسطينية، أول مستشارة عربية في حكومة ولاية برلين، ومن الجدير بالذكر أن "سوسن" وُلدت في ألمانيا، ونشأت في ظروف صعبة، إذ ظلت حتى بلوغها الثانية عشرة من عمرها من دون جنسية ولا أوراق إقامة، كما افتقدت دعم والديها في مسارها الدراسي، كونهما أميين ويتحدثان فقط اللغة العربية. وبالمثل فإن أغلب من ورد ذكرهم/ن في المقال، هاجروا إلى أوروبا وهم أطفال، وحصلوا على الجنسية بعد فترة من الزمن، وشقوا طريقهم بأنفسهم، ولولا امتلاكهم ملَكات ومواهب خاصة، لما وصلوا إلى هذه المناصب. وفي المقابل، لولا القبول الواسع لجمهور الناخبين في أوروبا للتنوع العرقي والديني، ولولا تخلصهم (بشكل كبير نسبيا) من النزعات العنصرية، لما أمكن لهؤلاء تولي تلك المناصب المهمة. ومن زاوية ما، تمثل هذه الظاهرة الإيجابية انتصارا على الدعاية الإعلامية المضادة للجاليات المسلمة، وردا على ظاهرة "الإسلام فوبيا"، ومن زاوية أخرى تمثل انتصارا على الهجمات الإرهابية التي تشنها الجماعات المتشددة (كما حصل في بروكسل وباريس ومدريد وغيرها). ولكن، كيف حقق هؤلاء قصص نجاحهم، رغم كل الصعاب!! الجواب سنجده ببساطة في البيئة السوية التي نشأوا فيها؛ حيث تتحقق المساواة، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وتُضمن الحريات والحقوق بمختلف أشكالها، وعلى رأسها حرية التعبير، والحق في الحصول على الفرصة، وفي النجاح أيضا. علما بأن جميع هذه القيم من صلب تراثنا الفكري، وطالما تغنينا بها، ولكنها للأسف، لا تُطبَّق أيٍ منها في بلادنا العربية والإسلامية، ولهذا ينتهز مواطنونا أول فرصة للهجرة باتجاه الغرب، بحثا عن بيئة حاضنة توفر لهم فرص التميز والإبداع، أو حتى العيش اللائق بمستوى البشر. أما الأسئلة المريرة التي قد نخجل من طرحها؛ ماذا لو بقيت "نجاة بالقاسم" في موطنها المغرب؟ حيث نسبة الأمية والفقر الأعلى على المستوى العربي. على الأرجح ستتحول إلى راعية غنم، كما يُشاع عنها وهي طفلة. وبالقياس، يمكن المجازفة بالقول، أن النائبة الإسبانية "نجوى" لو بقيت في مصر، ونشطت في أي مجال هناك وهي بهذا العمر، فإنها على الأغلب ستكون ضحية لتحرش جنسي في سوق الأزبكية. ولو نشأ النجم الفرنسي، ومدرب ريال مدريد الحالي "زين الدين زيدان" في الجزائر، فإنه في أحسن حال سيكون لاعب في أحد أندية الدرجة الأولى هناك، ولن يسمع به أحد، هذا إذا لم تجبره ظروفه على العمل كمزارع في أحدى كروم العنب في بومرداس. أما المستشارة "سوسن" فلو بقيت في فلسطين، فإما أنها قد تستشهد على حاجز قلنديا، أو ستكون رئيسة قسم في إحدى وزارات السلطة. هذا بالنسبة للمواطنين العرب، فماذا بشأن الهنود والباكستان الذين هاجروا إلى أوروبا وأميركا !؟ لنعرف الجواب، لنفترض مثلا أن والد "صادق خان" قد اختار السفر إلى السعودية، أو أي دولة خليجية بدلا من بريطانيا، مثلما فعل الملايين من مواطنيه. كيف سيكون حاله ومستقبله!؟ بما أن مهنة والديه متواضعة، فعلى الأكثر سيكون الآن إما موظف استقبال في فندق ما، أو "كاشير" في أحد المولات، أو محجوزا في المطار ينتظر رحلة تسفيره لمخالفته شروط الإقامة.. فهذا ما يحصل بالفعل مع ملايين الآسيويين العاملين هناك، الذين منذ لحظة وصولهم سيخضعون لسلطة "الكفيل"، الذي سيحتجز جواز سفرهم، وسيحدد لهم أين يعملون، وأين يقيمون... وسيكونون مقيدي الحركة، متقبلين ومستعدين لكل أنواع الزجر والإهانات، دون حقوق، دون ضمان صحي، دون كرامة.. ولو أقاموا في تلك البلاد قرن متصل فلن يحصل أي منهم على جنسيتها. المجتمعات العربية بارعة في إهدار الفرص وإجهاض المبادرات، وخنق الطموح، ومحاربة الناجحين والموهوبين من مواطنيها، وإذا كان صاحب الموهبة عربيا ولكن من جنسية أخرى، فسيكون حظه أسوأ، فما بالك بالنسبة للآسيويين والملونين!! الإجابة واضحة، ولا تحتاج تحليلات؛ فمجتمعاتنا ابتليت بعنصرية بغيضة، تترافق مع عقدة نقص ودونية تجاه الأجنبي الغربي، وعقدة إستعلاء تجاه الآخرين، خاصة الفئات الضعيفة والمهمشة، فضلا عن عنصرية رفض الآخر، وكراهيته، نتيجة أي اختلاف معه في الدين أو الطائفة أو اللون... "صادق خان" الآسيوي المنحدر من أصول فقيرة صار عمدة لندن؛ لأنه يعيش في مجتمع يتساوى فيه جميع المواطنين أمام القانون، ولديهم جميعا نفس الفرص، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو لونهم. هذا هو السياق الوحيد الذي نفهم من خلاله كيف صار مسلم عمدة لأكبر عاصمة "كافرة"