في ذكرى النكبة

thumb
حجم الخط

الكتابة عن النكبة منذ سنوات وسنوات هي كتابة تحولت الى تقليد روتيني في ايام المناسبة، تماما كما هي تقليدية الموضوعات التي يتم تناولها من حيث خلفية المشروع الصهيوني وتحالفه الاستراتيجي مع الغرب، ومن حيث الاهداف والادوات وسبل المواجهة. وعلى الرغم من أن هذا التناول بحكم المنطق هو طبيعي ومألوف الا ان المشروع الصهيوني نفسه قد شهد الكثير من مراحل المدّ والجزر، كما شهد هذا المشروع نفسه وبحدّ ذاته تحولات كبيرة في سياق «تطوره» الخاص. هذه المسألة بالذات (المد والجزر والتحولات) تُغري بالكتابة عن النكبة من زوايا يمكن ان تكون جديدة بقدر ما تكون ضرورية، وذات اهمية حاسمة على مستوى الرؤى الفلسطينية وعلى مستوى ادوات المجابهة الناجعة. اولى هذه المسائل على الاطلاق - كما أرى - هي رؤية فيما اذا كان هذا المشروع بعد اكثر من قرن كامل هو في حالة صعود او مراوحة او انحدار!!؟ بهذا المعنى فإن المشروع الصهيوني قد فقد او يكاد المبرر الايدلوجي ولم يعد يحظى بالمعنى الثقافي والاخلاقي بأية جاذبية، او قوة دفع جديدة، بل يمكن القول باطمئنان شديد ان فقدان هذا المبرر بالذات قد اصبح عند درجة معينة احد اهم الدوافع لتجديد «مشروعية» هذا المشروع من الناحية الايدلوجية، وتجليات ذلك على المستوى الثقافي والاخلاقي العام. وتحول المشروع الصهيوني على يد العصابات الصهيونية اولا ثم الدولة الاسرائيلية بُعيد قيامها ثانيا، وبعد تحولها الكامل الى قوة عسكرية طاغية وعدوانية وتوسعية ثالثا .. الى مشروع يفقد دعمه الدولي وتعاطف قطاعات واسعة من العالم معه كمشروع «لتحرير» الشعب اليهودي وتقرير مصيره...!!! بل وفقد المشروع التعاطف الذي حظي به من قطاعات يهودية على مستوى العالم. اما المسألة الثانية فتتعلق بفرادة المشروع على المستوى «الديمقراطي» وعلى مستوى «الواحة» الغربية في الشرق «المتخلف». المتغير الكبير منها هو ان المشروع الصهيوني قد فقد هذه «الميزة» على مستويات مختلفة. فالديمقراطية تحولت في الواقع الى ديمقراطية لليهود، وفقدت بهذا المعنى الديمقراطية الاسرائيلية محتواها الانساني. وتحولت الى محتويات جديدة هي عنصرية من حيث الجوهر. وحتى الديمقراطية لليهود انفسهم فقد تحولت الى منطقة رمادية، واصبح اليمين الجديد في اسرائيل على استعداد لممارسة نوع من «التمييز» ضد اليهود على مستويات ثقافية وعرقية مختلفة. أما ثالث هذه المسائل فهو التناقض الصارخ ما بين الديمقراطية والنموذج الغربي الذي كان احد اهم اسباب الجذب لاسرائيل من جهة وما بين مشروع يهودية الدولة. فقد دخل المشروع الصهيوني او بالاحرى ادخل المشروع الصهيوني نفسه في دوامة البحث عن ديمقراطية عنصرية تتناقض مع النموذج الغربي وعن «يهودية» هي في الجوهر عنصرية ضد قومية وطنية لما يزيد على عشرة ملايين فلسطيني، ولما يزيد على ربع مليار من العرب، اضافة الى أبعاد معينة لهذا التناقض مع العالم الإسلامي ومع العالم المتحضر على وجه العموم. وبالمعنى العملي المباشر فإن المشروع الصهيوني اليوم يواجه مسألة العلاقة ما بين الديمقراطية واليهودية في العلاقات التالية: علاقة دولة إسرائيل بالمواطنين الفلسطينيين داخلها. فبعد ان اشتد ساعد الحركة الوطنية في اطار ما نسميه نحن بالداخل الفلسطيني اصبح الحل المتمثل بالأسرلة والاندماج من سابع المستحيلات السياسية في ضوء ما يطرحه اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل. واصبح الحصول على الحقوق القومية لذلك الجزء الأصيل من الشعب الفلسطيني هناك خارج نطاق الإمكانية في ظل سيادة وطغيان المشروع الصهيوني بنسخته اليمينية الجديدة، وتحولت مسألة المساواة الى شعار يتناقض مع ابسط السياسات التي ينفذها هذا المشروع، وهو الأمر الذي يخلق لإسرائيل في ظل الحقائق الديمقراطية أزمة لا يمتلك المشروع الصهيوني اية وسائل لحلها، باستثناء تلك الوسائل الذي تحول تلك الأزمة الى مخاطرات التحول الى الكارثة. وأما علاقة دولة إسرائيل بالأرض التي تحتلها. فقد بات واضحا لإسرائيل ان تعايش الفلسطينيين مع الاحتلال امر انتهى والى الأبد والى غير رجعة، وأما تحويل حقوقهم الوطنية، الى احتياجات معيشية فقد انتهى الى الابد والى غير رجعة كذلك، وكلما زاد تعمق المشروع الصهيوني في التنكر لهذه الحقوق ازداد هذا المشروع تأزما في كل الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية. ان صمود الشعب الفلسطيني بهذا المعنى هو عنوان هزيمة المشروع الاحتلالي، وبناء وترسيخ مؤسسات الوطنية هو عنوان قدرته على المجابهة، وإعادة بعث هويته الوطنية هو مدخل لتصفية أهداف المشروع الصهيوني نفسه. ان هذا الانحدار الخطير والحاد وغير المسبوق وهذا التدحرج المتسارع نحو العنصرية والفاشية في إسرائيل وكل هذه التغولات اليمينية المتطرفة فيها ليست في الواقع سوى التعبيرات الجوهرية عن أزمة هذا المشروع الصهيوني، وكل محاولات «تجديد» شباب هذا المشروع بالاعتماد المطلق على منطق القوة والتفوق العسكري المدعم من الولايات المتحدة ومن بعض الأوساط الغربية هو عنوان آخر لأزمة هذا المشروع. حاولت إسرائيل ومن قبلها الحركة الصهيونية إخراج الشعب الفلسطيني من نطاق السياسة عبر تشتيته، ومن التاريخ عبر محاولة القضاء على هويته وسرقة تراثه وتزييف علاقته بأرضه وأمته، ومن الجغرافيا عبر احتلال كامل ارضه والتحكم بكل ما يتعلق بأدق تفاصيل حياته، فماذا كانت النتيجة حتى الآن؟ اسرائيل تخرج رويداً رويداً من السياسة، وهي تخرج اكثر فأكثر من التاريخ، وهما أمران سيحتمان خروجها من الجغرافيا اذا لم تتمكن القوى العالمية التي أنشأتها وعملت على ترسيخها في الواقع العربي وتعزيز قدرتها حتى درجة التفوق من لجم مسار الانحدار الذي تعيشه اليوم. كل صعوبات المشروع الوطني الفلسطيني هي صعوبات أزمة الواقع العربي، وربما صعوبات ازمة البحث عن رسوّ الحالة الداخلية الفلسطينية، وربما صعوبات ما زالت بحاجة الى مزيد من التذليل في الواقع الدولي، ولكنها - وهذا هو الأهم - هي صعوبات مؤقتة بالقياس التاريخي، وهي قابلة للتحول الى مصادر قوة في المستقبل، في حين ان أزمة المشروع الصهيوني هي أزمة تكمن في بنية المشروع نفسه، وفي جوهر الدور الذي انطوى عليه، وفي استحالة استمراره بالاعتماد على القدرات الفنية والدعم الأبدي..!! لهذا فإن النكبة - كما أرى - مناسبة لإعادة التفكير وإعادة قراءة الواقع، حيث امكن ولإعادة صياغة المشروع الوطني وفق هذا التفكير وهذه القراءة بعيدا عن لغة البكاء والندم وقريبا من لغة العقل وشحذ الإرادة والهمم.