وفّرت احتفالات الجيش الإسرائيلي بالذكرى الثامنة والستين لإعلان إنشاء اسرائيل فرصةً لاستعراض العضلات من جهة، ولإجراء مراجعات من جهة أخرى. وسمحت الظروف الحالية التي تَراجع فيها الإيمان الشعبي الإسرائيلي بقدرات جيشه، رغم استمرار إيمانه بأنه لا يملك جيشاً آخر، بنشوب خلافات مع الجيش وحوله. وليس أقل هذه الخلافات ما شاع مؤخراً من خلاف بين المستويين السياسي والعسكري حول منظومة القيم التي يجب أن تسود في المجتمع، خصوصاً بعد قتل جندي إسرائيلي جريحا فلسطينيا، وحملة رئيس الحكومة على جنرالٍ انتقد المظاهر العنصرية.
ومن بين الاستعراضات التي قدمها الجيش، عدا بعض أنواع أسلحته، كان الحديث عن إنشاء لواء «الكوماندوس» أو القوات الخاصة. وليس صدفةً أن هذا اللواء تشكّل أساساً من وحداتٍ قامت على نسق «وحدة إيغوز» التي كانت قد تأسست في العام 1995 لمجابهة رجال «حزب الله» في جنوب لبنان. وقد بنيت هذه الوحدة على أرضية التماهي مع صخور وأشجار شمال فلسطين وجنوب لبنان، والعيش في كهوف تلك المنطقة. وليس صدفةً أن منطلق لواء «الكوماندوس» الجديد هو أن «حزب الله أمامك»، وكأن وجود «إيغوز» قاد إلى تغيير قواعد اللعبة على الحدود مع لبنان. ومعروفٌ أنه بعد سنوات قليلة، اضطرت إسرائيل للاندحار عن الجنوب اللبناني في العام 2000 تحت ضربات المقاومة.
وقد بقيت «وحدة إيغوز» تعمل منفصلة ضمن «لواء جولاني» إلى حين اندماجها قبل شهور في لواء الكوماندوس الجديد. وواضح أن هناك من يعمل على بناء تراث لهذا اللواء من خلال تضخيم دور «إيغوز» التي تقريباً لم يكن لها ذكر في عدوان تموز 2006، حينما استخدمت إسرائيل، من دون نجاح كبير، كل قواتها الخاصة البرية والمحمولة جواً وبحراً. ولا يغيب عند ذكر عدوان تموز، الحديث عن واحدة من أبرز معاركه، وهي معركة بنت جبيل البطولية.
وتحت عنوان «البقاء في منطقة التدمير»، يعرض المعلق العسكري لموقع «والا» الإخباري، أمير بوحبوط، لمراجعة ثلاثةٍ من المقاتلين الإسرائيليين ممن شاركوا في معركة بنت جبيل لتلك الأحداث. ومن المعروف أن إسرائيل ركزت في تلك الحرب على بنت جبيل، ليس فقط لقربها من الحدود، بل لأن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله اختارها في العام 2000 لإلقاء خطاب «بيت العنكبوت» فور الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني.
وفي نظر المعلق الإسرائيلي، فإن كلمات نصر الله حول أن إسرائيل «أوهن من بيت العنكبوت» ظلت محفورة «في ذاكرة كل إسرائيلي تقريباً. فهي كلمات تصوغ الإدراك. وتعني أنه رغم امتلاك إسرائيل للذرة، ولسلاح الجو الأقوى في المنطقة، فإنها فعلاً أوهن من بيت العنكبوت». ويشير إلى أنه «حتى اليوم الثاني عشر للحرب التي وقعت بعد ست سنوات من خطاب نصر الله، كان حزب الله قد أطلق ما لا يقل عن 1095 صاروخاً على داخل إسرائيل، ولقي 22 جندياً و17 مدنياً مصرعهم. وبعدها، قرر الجيش الإسرائيلي خوض معركة برية والعودة إلى بنت جبيل ضمن عملية خيوط الفولاذ التي سعت، حتى من اسمها، إلى الرد على خيوط العنكبوت».
ويبين المعلق الإسرائيلي أنه «رغم النيات الردعية الإسرائيلية، إلا أن معركة بنت جبيل على الصعيد العسكري تجسد أكثر من سواها الصعوبة الهائلة في الحرب بين جيش ـ مهما كان تدريبه وقوته - وقوة عصابية تستتر في منطقة مدنية مبنية ومكتظة. على الصعيد الوطني، أظهرت المعركة جيداً استعداد إسرائيل لدفع ثمن باهظ من أجل أمنها. وقد دفعت. ثماني عائلات محطمة تشهد على ذلك».
ويوضح أنه في 23 تموز 2006، قرب منتصف الليل، اجتازت الكتيبة 51 من لواء جولاني السياج الحدودي بهدف واضح، وهو تطويق قوة حزب الله في بنت جبيل. وكتب قائد الكتيبة حينها، المقدم يانيف عاسور، أنه «في هذه الليلة، بدأت حرب الكتيبة 51». وأشار لاحقا في تحقيقاته إلى أن «هذه حرب مختلفة تماماً. حربٌ هي معادلة لا تعرف ولا يمكنك التكهن سلفاً بنتائجها ولا عواقبها».
وقد اجتمع ثلاثة من جنود تلك المعركة قرب الحدود ليرووا ذكرياتهم عنها. ألون حكيمة كان قائد السرية الثالثة برتبة نقيب وأصيب بجروح بليغة، ويوني روت كان رقيباً وأصيب هو الآخر إصابةً بليغة، وإسرائيل بيدلر، وكان قائداً للسرية الأولى وأصيب بطلقة في يده. ويقول بوحبوط إن الخلاصة من شهادات الثلاثة رغم اختلافاتها هي أن معركة بنت جبيل كانت «معركة الجندي البسيط. فقد انهار العمود الفقري لقيادة الكتيبة تقريباً».
وفي 24 تموز، انتشرت السريتان الأولى والثالثة وسرية إسناد وفصيل هاونات قرب بنت جبيل في بيوت لبنانية فر منها أهلها. وسعت هذه القوات لضرب أي رجال من «حزب الله» يمرون أمامها، وسرعان ما تم اكتشافهم بعد إطلاقهم النار على خلية لـ «حزب الله». في اليوم التالي، صدرت للقوات الإسرائيلية أوامر بالتقدم نحو بنت جبيل تسللاً. لكن المعركة الحقيقية وقعت فجر يوم 26 تموز في الساعة الخامسة حينما حدثت أول الاشتباكات وبدأت تقع إصابات في صفوف القوة المهاجمة.
ويشير بوحبوط إلى أن تحليل مجريات المعركة بناءً على صور جوية يوضح أن عشرات من مقاتلي حزب الله وصلوا إلى مبنى كانت فيه قوة إسرائيلية. وانتشر عشرة منهم على طول سور مزرعة زيتون فيما كان الجنود الإسرائيليون مكشوفين واقعين في «منطقة التدمير». ويشرح أحد الضباط أنه فوجئ لأن القوة لم تفلح في القضاء على رجال «حزب الله» فيما كان قائد الكتيبة المقدم عاسور عاجزاً عن فهم ما يجري.
ورغم استمرار هذه المعركة أكثر من ربع ساعة، ظل الجنود الإسرائيليون لا يعرفون من أين تأتيهم النيران ويقعون جرحى وقتلى واحداً تلو الآخر. واستمرت محاولات إخراج الجرحى من المنطقة تحت النيران، لكن أخطر ما واجه الجنود القنابل اليدوية التي كان يلقيها عليهم رجال «حزب الله». وكانت مشكلة باقي الجنود في السرايا الأخرى أنهم لا يعرفون ما يجري وأنهم فقط يسمعون عن وقوع الإصابات في كل قوة تحاول التقدم أو الإسناد. وقاد وقوع سرية في معضلة جنودها إلى التوقف عن الحركة وإطلاق النار بانتظار اتضاح الصورة.
ويقول الرقيب يوني روت إنه بعد وقت تقدم وشاهد جنديين يمشيان من دون خوذات ولا سلاح، وأحدهما وجهه مغطى بالدماء. سألهما ماذا حدث، فلم يتكلما، لكنهما أشارا بيديهما إلى مزرعة الزيتون. ويقول إنه ما إن وصل إلى طرف المزرعة حتى شاهد «جنوداً ملقين على الأرض، بعضهم قتلى والآخر جريح وهم يصرخون طلباً للنجدة. والمخربون على مسافة قصيرة جداً منهم يطلقون النار من دون توقف».
وعندما كانت الصورة بالغة القتامة والجنود على الأرض من دون إسناد رغم الصراخ، صدرت الأوامر بعد ثلاث ساعات بإشراك سلاح الجو. وقد ألقى ضابط قنبلة دخانية لتحديد مكان وجود القوة المحاصرة ولتمكين الطائرات من تدمير كل ما يحيط بهذه القوة. ولكن المهمة كانت صعبة لأن رجال «حزب الله» كانوا من وحدة خاصة، وكانوا يسعون لأخذ أسرى. فقط في الساعة الثالثة بعد الظهر، كانت عملية إجلاء المصابين جواً قد تمت، لكن إطلاق النار لم يتوقف.
نتيجة المعركة تلك وحدها كانت ثمانية قتلى من الكتيبة 51 وعدد كبير من الجرحى. بين القتلى، كان نائب قائد الكتيبة، قائد سرية ونائب قائد سرية واثنان من قادة الفصائل ورقيبان.