في البداية أقف احتراماً وتقديراً لكل من ساهم في إنجاح معرض فلسطين الدولي للكتاب بنسخته العاشرة؛ وأقول لهم: "chapeau" ولأولئك الذين وقفوا على الهامش مشاهدين، ولم يقدموا سوى الانتقاد سأقول: إن الثقافة أيضاً فعل ورد فعل، وما بينهما تكمن المتعة في إنتاج المعرفة، فماذا قدمت أصنام الثقافة بعد كل هذا العمر؟! كتبت مقالي هذا في رحاب تجوالي الدائم بين معرض الكتاب، والفضاءات المكونة له، ومشاركتي للأنشطة والفعاليات، بمحاولة مني للتفكير وتفكيك بعض المشاهدات التي أنجبت أسئلة ما زلت أبحث عن أجوبة لها لفهم ما يحدث باسم الثقافة! فكيف تتم ولادة الشاعر والكاتب والرسّام؟ وحيث أنني وبكل ثقة وتأكيد مع الدعم المطلق لجميع الطاقات المبدعة بكافة السبل والإمكانيات المتاحة من أجل البناء التراكمي للأجيال، لكني أُصدم على أرض الواقع بما يحدث من ممارسات لا تهدف إلى دعم الطاقات بقدر ما هي قتل للطاقات الكامنة التي يجب تسليط الضوء عليها. فنجد فجأة ودون سابق إنذار أن "س" أصبح فنّاناً تشكيلياً وله معرض مع أنه لم يحمل ريشة بحياته، وتصبح "م" شاعرة ولها ديوان شعر وتستحق منا معاملة فدوى طوقان!! ويصبح "و" كاتباً علماً أنه لا يميز بين الرواية والقصة القصيرة!! بالتالي يطفو الفارغ والخفيف على سطح بحيرة الثقافة؛ ويغوص في قاعها الثمين والزخم.. ونحن أيضاً يقع على عاتقنا جزء من المسؤولية، فنحن من يوجه المجتمع بطريقة غير مباشرة وغير مقصودة لهذه الثقافة الفارغة المضمون، ولمن يبرر تحت مقولة: "دع المجتمع يختار ما يريد من نصوص، ومعارض، وموسيقى، وأفلام، وإلخ، فهو الحكم الأول والأخير"، سأقول له: إن دور المؤسسات الثقافية أكبر من أن تكون فقط منصة لتسليط الضوء على ما يطفو ببحيرة الثقافة. نعم هناك حراك ثقافي في المجتمع الفلسطيني في السنوات الأخيرة بنسب متفاوتة أشبه بالأمطار الموسمية؛ لكن الأهم أن ننظر لهذا الحراك بعدسة المجهر ومن زاوية نقدية: نقد المثقف، ونقد المنتج الثقافي، ونقد المجتمع. إن ما يحدث في مجتمعنا الفلسطيني يؤكد أننا نفتقد ثقافة النقد التي تمكننا من نقد الثقافة ومكوناتها وأدواتها ومنتجاتها. وما يثير استغرابي هو أن من يدعي أنه "مثقف" وله الحق في نقد المجتمع والسلطة كيفما يريد، يحرم علينا نقد كتاباته أو قصائده، ويعتبر ذلك مؤامرة من الإمبريالية الصهيونية ونصبح من معسكر الأعداء، ويستدعي ذلك شن حروب ضدك، أقلها حذفك من قائمة الأصدقاء على شبكة التواصل الاجتماعي الـ"فيسبوك" وأكثرها شن هجوم اجتماعي بأدوات مختلفة. يقول المفكر اللبناني علي حرب: "فليتواضع أهل الفكر والثقافة، إنهم ليسوا نخبة المجتمع أو صفوة الأمّة، وإنما هم أصحاب مهنة كسائر الناس ولا أفضليّة لهم على سواهم. وإن كان الاشتغال بالفكر امتيازاً فإنّ عمل الفكر سيف ذو حدّيْن: قد يكون أداة للكشف والتنوير أو قد ينقلب أداة للحجب و التضليل". في رحاب المعرض، كان هناك "مثقف" ولا يوجد "مثقفون" فقد استطاع المعرض "لم شمل" المثقفين تحت مظلة المعرض. إن تشرذم "المثقفين" بسبب تعدد المؤسسات الثقافية الحكومية التي يجب أن تعاد هيكليتها ودمجها، وضعف بعض المؤسسات الثقافية غير الحكومية، أظهر لنا حالة الشللية لدى "المثقف"، ما جعل البعض منهم يتعامل مع الثقافة كوظيفة وامتيازات من ناحية، وأن يحشد التحالفات "أشباه المثقفين" لتقوية ذاته وتعزيز تواجده في المشهد الثقافي من ناحية أخرى. ما أخشاه هو تدهور الحضور الثقافي الفلسطيني، ونحن كمجتمع دفعنا وسندفع ثمن ذلك إذا استمر نهج البحث عن التواجد الأكبر "للمثقف" بغض النظر عن دوره الذي يفترض أن يكون هو العنصر الفاعل وليس الخامل النائم الذي يستيقظ فقط في المناسبات.