غداً، سيقفل معرض فلسطين الدولي للكتاب أبوابه، وستُحال أوراقه ووثائقه إلى أرشيف وزارة الثقافة، لتصبح جزءاً من تاريخ الحركة الثقافية الفلسطينية، وتفاعلها مع محيطها العربي والعالمي، فيما ستغدو أمسياته وفعالياته وأجواؤه طيفاً من الذكريات، عشناها على مدار عشرة أيام صيفية ناعمة، مرت مثل قصائد من مروا بالمكان، وجعلوا منه واحة غنّاء..
الكثير من رواد المعرض عبّروا عن ارتياحهم لحسن الإدارة والتنظيم، ومنهم من اعتبره الأفضل من بين دوراته العشر.. قاعات المعرض فسيحة، ونظيفة، بفضاء مفتوح، وخدمات جيدة، والكتب مرتبة بطريقة تسهّل على الزوار المرور عليها.. فضلا عن نوعيتها وجرأتها وتنوع موضوعاتها.. مع الأخذ بعين الاعتبار أن سلطات الاحتلال احتجزت آلاف الكتب القيمة وحرمتنا منها.. وأيضا ما يُسجل لإدارة المعرض توزيعها للفعاليات على مدن الضفة وكسر احتكار رام الله للمشهد الثقافي.. كما يُحسب للمعرض تخصيصه جناحا خاصا بأسرى الحرية، وفعاليات خاصة بالأطفال.. مع ضرورة الاعتراف ببعض المنغصات التي حالت دون اكتمال المشهد؛ ما كان ينقص المعرض مزيد من الجهد الدعائي والتسويقي، خاصة داخل الخط الأخضر، وفي بقية المدن الفلسطينية.. ولأن المكان بعيد نسبيا، ويفتقر لوسيلة مواصلات عامة، كان من المفترض تسيير حافلات مجانية لنقل الزوار.. بالإجمال، الكتب لم تكن رخيصة الثمن، كما كان يأمل الزوار، ولهذا كان من الأجدى بوزارة الثقافة إعفاء دور النشر من رسوم المشاركة الباهظة، لتشجيع الناشرين على عمل تخفيضات.. وربما كانت هذه من بين أسباب ضعف حجم المبيعات، إضافة لتخلف المؤسسات العامة والأكاديمية عن الإقبال على المعرض، قياسا بدورات سابقة..
على هامش المعرض، دار جدال ساخن حول معايير اختيار المشاركين، خاصة لأشقائنا من قطاع غزة... الذين لم يشاركوا لهم حق الاعتراض، وأيضا إدارة المعرض محقة بقولها: من المستحيل إرضاء جميع الناس.. والمهم أن غزة كانت حاضرة وممَثَّـلة.. أما الجدل الآخر فدار حول ظاهرة الشعراء والروائيين الذين ظهروا فجأة، ودون مقدمات.. أكثرية الآراء انتقدت هذه الظاهرة، ووضعت اللوم على دور النشر، وقالوا إنها باتت تغلّب المعيار التجاري على معيار الثقافة وجودة العمل؛ فتقبل بنشر أي كتاب، مقابل ما سيدفعه الكاتب، واعتبر أصحاب هذا الرأي أن ذلك أضر بالثقافة، وساهم في تشويه الذائقة الفنية للقراء، بل وأساء للأعمال القيّمة التي بذل أصحابها فيها جهدا حقيقيا.
في مقابل الآراء التي تقول: دع كل الزهور تتفتح في بستان الثقافة، الراحل الشهيد ياسر عرفات كان يقول: «دع كل الزهور تتفتح في بستان الثورة»، وشجع على ظهور الفصائل الصغيرة، ربما لثقته المفرطة في وطنية وصدق الجماهير وصوابية خياراتها، السؤال المطروح على الصعيد الثقافي، هل من حق كل شخص أن يصدر كتابه الأول؟ وهل فعلا بوسع القراء تقييم جودة العمل، وتمييز الغث من السمين؟ وبالتالي فرز الكتّاب والمبدعين عن المدّعين والدخلاء.. مع قناعتي بأن دور النشر من حقها أن تنشر ما تراه مناسباً، لأنها في النهاية مؤسسات ربحية، وعليها التزامات مادية، ولا تتلقى دعما من أحد.
أما الأسئلة التي يجب أن لا نقفز عنها: ما هي المعايير المعتمدة للفرز والتقييم؟ ومن يضع هذه المعايير؟ طالما أن الذائقة الفنية للقراء نسبية؛ من الصعب وضع معايير ثابتة ومتفق عليها.. على سبيل المثال هنالك روائيون عالميون نالوا جوائز رفيعة في الأدب، وأعمالهم تُرجمت لعشرات اللغات، وكتبهم تملؤ رفوف المكتبات؛ ومع ذلك لا أستسيغ أسلوبهم، ولا أستمتع بقراءة أعمالهم، مقابل أعمال لكتّاب مغمورين أجدها أقرب لي، وربما ها ينطبق على كثير من القراء..
الكثير من الأدباء الكبار كانت بداياتهم باهتة، وضعيفة، ثم تطوروا لاحقا؛ التجربة مهمة لصقل ملكات الكاتب وتحسينها.. خروج العمل الأول لأي كاتب محطة مهمة وحساسة، وعتبة لا بد منها، أحيانا تتعثر، وأحيانا تتطور.. ومن ناحية ثانية، هنالك عشرات المبدعين الشباب الذين لم يتلقوا أي دعم، فراحت إبداعاتهم أدراج الرياح.
بدلا من إلقاء اللوم على دور النشر، أو على الكتّاب المبتدئين؛ على وزارة الثقافة تفعيل دورها في دعم المبدعين في شتى الحقول، وذلك بطباعة ونشر مائة كتاب سنويا (وهو رقم متواضع بالمقاييس العالمية)، وهذا يتطلب تفعيل لجان القراءة، والتأكيد على نزاهتها وشفافيتها.. وبموازاة ذلك، يقتضي الأمر تطوير حركة نقدية نشطة، لا يكون همها تصيّد الأخطاء، ولا المجاملة.. في هذه الحالة، يمكن للقارئ أن يثق بأي كتاب تجيزه الوزارة، ويمكن للكتّاب (غير المقتدرين ماديا) أن يحظوا بفرصة نشر مخطوطاتهم.
ختاماً، شكراً لعشرات الأدباء من شعراء وروائيين وأكاديميين الذين أتوا إلى فلسطين، وكسروا الحصار المفروض عليها، وتضامنوا مع شعبها وقضيتها من بوابة الثقافة والفكر.. وشكراً لدور النشر التي تحملت أعباء الحضور والمشاركة، رغم أن الموضوع ليس مغريا من الناحية التجارية، فبعضهم تقبل خسائره بفرح ممزوج بإحساس العطاء، وتحقيق حلمهم الأثير بزيارة فلسطين.. وشكراً لوزارة الثقافة على جهدها المميز، ومتابعتها الحثيثة، وعلى إتاحتها الفرصة للالتقاء بأدباء من غزة، ومن الأردن وتونس والمغرب والجزائر، وهؤلاء كان يتعذر لقاؤهم بسبب الحصار.. وشكراً لدولة الكويت التي حلت ضيف شرف على المعرض.
وهنيئا لكل من عمل في المعرض تذوقه نكهة النجاح..
#فلسطين_تقرأ