قادت حملة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على نائب رئيس الأركان الجنرال يائير جولان بسبب تحذير الأخير من ممارسات تشبه ما جرى في ألمانيا النازية إلى إثارة سجل شديد في الحلبة السياسية في الدولة العبرية. ولا يعود هذا السجال فقط إلى واقع الاختلاف في الرأي بين السياسيين والعسكريين وإنما إلى رغبة رئيس الحكومة في التقرّب من أوساط أكثر يمينية على حساب ضباط الجيش. لكن لا يقلّ أهمية عن ذلك واقع أن قادة الجيش الإسرائيلي صاروا، في نظر البعض، «حماة الديموقراطية الإسرائيلية» في مواجهة النزعات الأشدّ فاشية التي تتجلّى في أحزاب اليمين.
ومعروف أنه سبق حملة نتنياهو على جولان احتدام الخلاف بين قادة اليمين وقادة الجيش حول تعليمات فتح النار بعدما أطلق جندي النار على رأس جريح فلسطيني. وفيما اعتبر قادة الجيش هذا عملاً منافياً لتعليمات الجيش و «أخلاقياته» هبّ كثير من القادة السياسيين للوقوف إلى جانب الجندي القاتل والحث على عدم تقديمه للمحاكمة. وجاءت هذه التطورات في ظل أعنف سجالات حول المظاهر العنصرية في المستشفيات وحول القوانين التمييزية ضد العرب في الكنيست. وكان واضحاً أن الأحزاب الفاشية والدينية، من خلال حملتها على العرب وعلى المحكمة العليا وعلى منظمات حقوق الإنسان، تريد تكريس سطوتها على المجتمع الإسرائيلي ومنع وجود أية أصوات معارضة.
ووجدت افتتاحية «هآرتس» أن الحملة على مؤسسات الدولة بما فيها المراقب العام والمحكمة العليا تنبع من سياسة ترى أن كل انتقاد، مهما كان، للحكومة يشكل خطراً على الدولة. وقالت إن نتنياهو يتبع في ذلك خطى حزب «البيت اليهودي»، الذي يفاقم النظرة للخطر، رغم أن نتنياهو في ولايته السابقة حاول، مثلاً، إلغاء منصب الرئاسة فقط من أجل منع خصمه رؤوفين ريفلين من تولّي المنصب. ولاحظت أن نتنياهو يرى أن وجود مؤسسات الدولة جاء «لخدمة هدفين: تمديد ولايته، وتعزيز «الإعلام» الإسرائيلي في الخارج ـ ظاهراً للدفاع في وجه حركة المقاطعة واللاسامية، وعملياً لإسكات النقد على استمرار الاحتلال في المناطق وتقويض الديموقراطية في إسرائيل. كل تعبير وفعل، يتناقض وهذه الأهداف، يصنّف كخيانة وخطر».
ولكن الخلافات في الحلبة السياسية وتبادل الاتهامات شيء وتوريط الجيش في هذه الاتهامات شيء آخر. فالبوتقة الصهيونية لـ «صهر أسباط اليهود» في قالب واحد كانت ولا تزال الجيش، والذي خلافاً للجيوش الاحترافية الأخرى في العالم أخذ على عاتقه مهمات مدنية كالتعليم. وكثيراً ما جرى اعتبار الجيش طوطماً يستدعي التقديس خصوصاً أن لا شيء أكثر قداسة لدى الإسرائيليين من «بقرة الأمن».
وليس صدفة أن كبار المعلقين في إسرائيل اشتموا الخطر في مواقف نتنياهو من قيادة الجيش، سواء ما تعلّق منها بتعليمات فتح النار أو بتصريحات قيمية يطلقها جنرالات. وفي نظرهم لم يكتفِ نتنياهو وأمثالهم بالحملات على مؤسسات الدولة المدنية، بل انتقل الأمر لمهاجمة الجيش وبعض المؤسسات الأمنية الأخرى. ويرى هؤلاء أن الخطر الأكبر على الدولة العبرية يكمن في هذه المسألة خصوصاً أن الجيش، على الأقل في الظروف الراهنة، هو ضمانة أمن ووجود إسرائيل وهو عنوان وحدتها.
ولا ينبع الخطر فقط من واقع أن الاختلاف مع الجيش يدخله رغماً عنه في السياسة وهو ما دفع معلقاً، مثل تسفي بارئيل في «هآرتس»، لتخيل انقلاب يقوم به الجيش ضد حكم اليمين، وإنما ينبع من أثر ذلك على موقف الجمهور الإسرائيلي من الجيش. وليس صدفة أن رئيس الأركان الإسرائيلي غادي آيزنكوت توجّه للإسرائيليين في خطابه بمناسبة ذكرى تأسيس الدولة العبرية موضحاً أن ذخر الجيش الأساسي هو في ثقة والتفاف الإسرائيليين حوله. وإذا كان رئيس الحكومة وساسة كبار يشككون في قيادة الجيش فإن هذا سينعكس لاحقاً على الأهالي عندما يرسلون أبناءهم للخدمة في الجيش.
والواقع أن النظرة للجيش الإسرائيلي تغيّرت كثيراً في السنوات الأخيرة. ورغم أن استطلاعات الرأي تظهر أن ثقة الإسرائيليين لا تزال كبيرة بالجيش مقارنة بثقتهم في مؤسسات الدولة الأخرى، فإن هذه الثقة تراجعت. ولم يعد الجيش في واقع الأمر بوتقة انصهار بقدر ما صار تعبيراً عن واقع الحال. وهكذا فإن تغير الطليعة في المجتمع الإسرائيلي من الكيبوتسات إلى المستوطنات ترك أثره على الجيش الذي صار الكثير من قادته من معتمري القبعة الدينية. ولكن مع ازدياد تدين المجتمع الإسرائيلي صار التناقض يظهر بين أنصار متلقي الأوامر من الحاخام ومتلقي الأوامر من القائد العسكري.
وربما أن السجال مؤخراً حول تعليمات فتح النار فاقمت من حدة هذا التناقض، بعدما أعلن رئيس الأركان أنه لا يريد أن يفرغ جندي مخزن رشاشه في طفلة تحمل مقصاً وإفتاء الحاخام الأكبر الشرقي بوجوب «المبادرة لقتل من هبّ لقتلك». في كل الأحوال يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى أن الخلافات حول صورة الدولة العبرية ومستقبلها وأساساً حول التسوية مع الفلسطينيين لم تعد حكراً على الحلبة السياسية، بل انتقلت منها إلى صفوف الجيش. ورغم كل الكلام عن حرفية الجيش الإسرائيلي وابتعاده عن السياسة، فإن هذا الجيش، أكثر من أي جيش آخر منخرط في السياسة، بتجليتها التكتيكية والاستراتيجية. ويبدو أن الجيش الذي صار يستشعر التغييرات الكبيرة في الإقليم والعالم وصعوبة تحقيق انتصارات صار أقرب إلى الاعتدال في مواجهة نخبة سياسية تتنافس على التطرف.