«السبيل الوحيد لإحراز تقدم من أجل سلام حقيقي لا يكون إلا من خلال محادثات مباشرة بيننا وبين الفلسطينيين ودون شروط مسبقة». إن أي صيغة أخرى غير المحادثات الثنائية سيعطي الفلسطينيين مهرباً يتجنبون من خلاله الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي». الكلام لبنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي أعلن رفض إسرائيل للمبادرة الفرنسية. نتنياهو قدم حيثيات أخرى لرفضه، فالمبادرة لا تأخذ في الاعتبار تعقيدات الصراع، وبصريح العبارة فهو يخشى من تحول الدولة الفلسطينية إلى دكتاتورية إسلامية أخرى. والمبادرة لا تشير إلى إنهاء الصراع والاعتراف بدولة اليهود، ولا تتضمن ترتيبات أمنية تحول دون سيطرة «حماس» أو «داعش» أو كليهما على الأراضي التي ستتركها إسرائيل. كما نرى، يضع نتنياهو شروطاً مسبقة من طرف واحد وهو الذي رفض هدف تحديد هدف المفاوضات ومرجعيتها، ورفض وقف الاستيطان كنقيض للعملية السياسية وللتفاوض على حد سواء. لم يكن الموقف الإسرائيلي واضحاً وقاطعاً كما هو عليه الآن. كان إسحق شامير رئيس حكومة مطلع التسعينيات يرفض كل المواقف والمبادرات التي تشير من قريب أو بعيد إلى تقليص الاحتلال، وبناء على رفضه الدائم لكل شيء، أطلق عليه لقب «مستر نو»، وكان يضطر للتراجع لاعتبارات أميركية بحتة. أما نتنياهو فهو يعطي الموقف ونقيضه، مع دولة فلسطينية وضدها، مع عملية سياسية وضدها، مع وقف جزئي للاستيطان ومع مضاعفته في الوقت نفسه. ولكن عند مواءمة أقوال نتنياهو مع أفعاله فإنه يضاهي شامير في رفضه. فقد تنصل من التزامه الشكلي من حل الدولتين طمعاً في أصوات غلاة المتطرفين، وعاد إليه إرضاءً لأميركا ودول الغرب، وأطلق خطاباً عنصرياً ضد العرب كي يتربع على عرش اليمين في الانتخابات. لم يعد رؤساء الدول وسفراؤها يثقون بأن نتنياهو يريد حلاً سياسياً أو حتى نصف حل مع الشعب الفلسطيني. وعندما لم يعد نتنياهو محط خلاف، فإن هذا يعني أن إسرائيل لا تريد أي حل بشروط وبغير شروط، بل تستمر في تدمير ما تبقى من مقومات الدولة الفلسطينية، وطالما أنها ترفض جذرياً دولة ثنائية القومية، أو دولة لكل مواطنيها، فإن التحولات التي يعيشها المجتمع والمؤسسة الإسرائيلية تقود الأمور نحو إزاحة المجتمع الفلسطيني في حدود بنتوستونات الفصل العنصري؛ توطئة للطرد الطوعي بفعل تضييق سبل العيش، أو باستخدام القوة كفصل أخير من فصول التطهير العرقي. ولما كان الطرد الجماعي، أو استعباد شعب آخر وحكمه وإعادته إلى مرحلة العبودية، أمرين شبه مستحيلين، فإن سياسات نتنياهو وحلفه «المقدس» سيضع دولة الاحتلال في تناقضات لا حلول لها، ليس أسوأها الدخول في حرب دينية والإيغال في التوحش. صعد نتنياهو إلى أعلى الشجرة بتشجيع وبمساندة مباشرة وغير مباشرة من النظام الدولي بزعامة أميركا، والنظام الدولي هو الذي يستطيع إنزاله على الأرض، ولكن كيف؟ الموقف الرسمي الفلسطيني يسعى إلى تدويل القضية، وإطلاق عملية سياسية ضمن جدول زمني وآليات. وليس في ذلك جديد، فالاستعانة بالولايات المتحدة كان خياراً استراتيجياً بدأ مع الانتفاضة الأولى، وما يزال مستمراً حتى اليوم، لكنه يعتمد على المبادرة الفرنسية التي دعت إلى مؤتمر دولي للسلام، يضع إطار عمل للمفاوضات، وجدولاً زمنياً لإنهاء الاحتلال، ويطلق مفاوضات فلسطينية إسرائيلية من جديد، إضافة لتشكيل لجنة متابعة دولية لحل الصراع. وتحضيراً لذلك سيعقد اجتماع دولي في 30 أيار الجاري في باريس بمشاركة عربية ودولية. السؤال الذي يطرح نفسه: هل من جديد؟ راهنت الهيئة العربية العليا على بريطانيا العظمى بحثاً عن حل وكان مصير ذلك الرهان هو الخذلان، وراهنت منظمة التحرير بقيادة أحمد الشقيري على النظام الناصري العربي ولم يؤد إلى شيء، واعتمدت منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات على الدور الخاص للشعب الفلسطيني وثورته فحققت هوية واعترافاً نظرياً بالحقوق. وعندما أرادت ترجمة الحقوق إلى تقرير مصير ودولة أعادت الرهان على أميركا القطب الدولي المهيمن ولم تحصد إلا اتفاق أوسلو الذي جردها من كل عناصر قوتها المتراكمة منذ إطلاق الرصاصة الأولى في 1/1/ 1965، وجعلها رهينة في قبضة الاحتلال. هكذا يتكرر الإخفاق، ويتكرر معه الرهان، وكأنه لا يوجد خيارات أخرى. قد تكون الخيارات البديلة صعبة وتعتمد على قوى وسياسات وتحالفات وأساليب جديدة تجعل من القضية الفلسطينية قضية دولية وعربية ضاغطة على المصالح الدول القادرة على فرض حل، كما كان الحال مع قضية الشعب الجنوب إفريقي. وغير ذلك فإن مواقف الدول الكبرى المتحررة مصالحها من أي ضغط، ستبقى مواقفها حبراً على ورق، وستبقى منحازة لإسرائيل حليفتهم الاستراتيجية والمدافعة عن مصالحهم. النموذج الآخر هو تقاطع المصالح بين إيران الدولة الإقليمية الصاعدة التي تبحث عن نفوذ مع الدول الكبرى 5+1، ذلك التقاطع الذي أفضى إلى اتفاق حول المفاعل النووي الإيراني وحول الديون والنفط والحصص في الإقليم. وقد يتكرر مثل هذا الحل في سورية باتفاق روسي أميركي تشارك فيه دول أوروبية ودول الإقليم. ما حدث لا ينطبق على القضية الفلسطينية التي يملك فيها النظام الفلسطيني شيئاً ليعطيه، ولن تتبرع له الدول الكبرى بحل. ولا يملك فيها الشعب الفلسطيني قوة ذاتية لها مصداقية نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الإفريقي، وشبكة التحالفات المنطلقة من مصالح مشتركة (شعوب وحركات اجتماعية)، القادرة على فتح معارك وكسب نقاط يؤدي تراكمها إلى فرض إجلاء الاحتلال وحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً بالمستوى النسبي. دون توفر مصالح قابلة للمساومة من أجل إيجاد حل، ودون ضغط على مصالح الكبار، سيتكرر الرهان فالإخفاق ضمن متتالية لا تنتهي. من يستمع إلى الخطاب الرسمي الفلسطيني وبخاصة أقوال وزير الخارجية د. رياض المالكي، وأقوال مندوب فلسطين في الأمم المتحدة السفير رياض منصور، حول مجلس الأمن والمبادرة الفرنسية، يعتقد أننا على أبواب حل قريب، وأن مجلس الأمن على وشك إعلان الحماية للشعب الفلسطيني. فهل نحن حقاً نقترب من الحماية ومن ذلك الحل الموعود؟ هذا يعيدنا إلى مشروع خارطة الطريق التي وضعت جدولاً زمنياً لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، واعتمدت على الرباعية الدولية كأرفع لجنة متابعة دولية، ونصبت توني بلير منسقاً لها والذي بقي يذرع المنطقة طولاً وعرضاً لسنوات، يروج الأحلام ويبيع الأوهام ويكتنز الذهب والفضة. وماذا كانت النتيجة ؟ كانت أقوالاً بلا أفعال وقد تهاوت وبلعها النسيان. لا شك هناك مشروعية لقبول مبادرات تلتزم بإنهاء الاحتلال حتى بالأقوال، ومشروعية لاستخدام الأمم المتحدة ومنابرها، ولكن دون إعادة الأوهام، فما عاد هناك متسع لها.