قبل قرن من الزمان أو أكثر قليلا، كان لأشياء بسيطة قدرة مدهشة على إنتاج أحداث ضخمة؛ مثلا كان يكفي كتابة مقال صحافي للتسبب بمجزرة، أو نشر كتاب لإنشاء دولة، أو عقد مؤتمر لتأسيس حزب تاريخي، أو إذاعة خبر لتحريك شعب بأكمله، أو تصريح لزعيم لإشعال حرب.. وهناك أمثلة حقيقية على كل ما تقدم ذكره، قد لا يتسع المجال لذكرها هنا.
اليوم اختلف الوضع كثيرا؛ فمع الانتشار الهائل لوسائل الإعلام، ومع وجود آلاف الصحف والمجلات وقنوات التلفزيون التي تنشر في كل ساعة مئات الأخبار والتقارير، ومع ملايين الكتب والمقالات والأبحاث التي تتناول شتى المواضيع، ومع مليارات الإيميلات، والتغريدات والمنشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، ومئات الآلاف من الأفلام القصيرة والطويلة التي تحمل كل يوم على الإنترنت.. صارت تلك الأشياء الصغيرة بحاجة لجرعات مضاعفة عشرات المرات حتى تمتلك قدرتها على التحريك والفعل.
قديما، كان رسام أو اثنان يكفيان العالم، بلوحاتهما التي الآن لا تقدر بثمن، اليوم لدينا آلاف الرسامين الذين لا يسمع بهم أحد، مع أن فنهم قد لا يقل جودة وإبداعا عن «دافنشي» و»مايكل أنجلو» مثلا.
بالمثل كان لمخترعات غاية في البساطة أن تُحدث تغييرا كبيرا، اليوم بفضل الثورة التكنولوجية، صار لدينا مخترعات غاية في التعقيد، ولكن لكثرتها لا نعرف من اخترعها.. المسألة ليست في جودة المنتج وحسب؛ بل في شدة التنافس في شتى المجالات، وفي ارتفاع مستوى المقاييس، إلى درجة صار يتعذر الوصول إليها من قبل الناس العاديين، أو حتى الموهوبين؛ فقدرات الإنسان لا حدود لها، وكلما أوغل في أي اتجاه، تبين له أن بوسعه تحقيق ما هو أكثر، والوصول إلى ما هو أبعد.. ما يعني أنه في خضم هذا التنافس الشرس، صار على أي مبدع في أي حقل من الحقول أن يكون استثنائيا وبطريقة خارقة حتى يثبت حضوره.
فمثلا كان العدّاء الخارق يركض 100 متر في 15 ثانية، ويحصد أرفع الجوائز، اليوم، صار مطلوبا من العدّاء أن يركض نفس المسافة في ثلثي الوقت، وعلى هذا المنوال قِس، فقد تم تحطيم كل الأرقام القياسية في الرياضة، وفي المغامرات، وفي البناء والتصنيع والزراعة، وفي كل شيء.
إذا ألف أحدهم كتابا، أو قصيدة، أو رواية، أو طرح نظرية، أو فكرة فلسفية، أو حتى ابتكر طبخة لا بد أن يكون عمله خرقا غير عادي !! وإلا سيكون مجرد رقم من بين ملايين الأرقام .. هذا الأمر فيه إجهاد كبير، واستنزاف لقدرات الإنسان العادي، بل وسَحق له.
وقد انتقلت عدوى هذا التنافس لصفوف الطلبة والأطفال، فصار الأهالي يضغطون على أبنائهم للارتقاء بمستوى مواهبهم والتفوق على أقرانهم إلى درجة ربما تكون فوق طاقتهم.. وصار الأطفال العاديون يرون أنفسهم أقل شأنا، مهما حاولوا وبذلوا جهودهم للوصول إلى ذلك المستوى غير الطبيعي.
في هذه الأجواء المحمومة، غابت وغُيِّبت عشرات النداءات والأصوات النبيلة والأفكار الخلاقة التي لم يستطع أصحابها الصمود في سوق المنافسة ربما لضعف إمكانياتهم أو لأسباب موضوعية أخرى، وطاقات كبيرة أُهدرت، ومواهب حقيقية اختفت، وإبداعات من كل لون سُحقت تماما، أو تنحت جانبا لعدم قدرتها على التنافس.. والمشكلة أن الناس لم تعد تقبل بالعادي، أو ترضى بالمستويات التقليدية التي كانت تبهرها سابقا.
أما الجانب الإيجابي من الموضوع فتمثل في تقليص قدرة تلك الأشياء الصغيرة التي كانت تديرها «أيدٍ خفية» على إنتاج الشر، لاسيّما مع تنامي حالة من الوعي والتنبه لدى شعوب العالم، كما أدت المنافسة إلى تحسن الإنتاج، وزيادة مستوى الإبهار والجمال، وتراجع الكثير من المواهب المزيفة، وأخذت الإبداعات العادية والمميزة حجمها الذي تستحقه.
لكن القضية ليست فقط في مجالات الإبداع والفن والإبهار؛ إنها في صلب الحياة اليومية للإنسان العادي، فقد زادت نسبة البطالة بسبب شدة التنافس في صفوف الخريجين، ودفع التنافس الكثير من الشركات لتسويق منتجاتها بطريقة فيها قدر من التضليل والتحايل على المستهلك.
وبالطبع، لم تنحصر المنافسة في الأشياء الإيجابية، وبما يخدم الإنسان؛ فدخلت الأخبار ميدان التنافس، وصارت صناعة بحد ذاتها، وصار الناس لا يأبهون بالأخبار «العادية» التي كانت مثيرة في مراحل سابقة، بل صاروا بحاجة لجرعات مضاعفة من الأخبار المثيرة، حتى يتفاعلوا معها، فمثلا خبر عن مقتل شخص أو أكثر وبصورة متكررة صار خبرا باهتا، وصار الجمهور بحاجة إلى خبر صاعق ومثير (مذبحة على الأقل)، حتى يسترعي الأمر انتباههم.. وأيضا ومع ضخامة الأحداث وكثرتها وتسارعها وتنوعها، صار بمقدور الإعلام الأقوى توجيه دفة اهتمامات العالم، بالتركيز على قضايا معينة وتغييب أخرى، وفقا لمصالحهم، ووفقا لاعتبارات منطق وقوانين المنافسة.
وبموازاة ذلك، دخل الإعلام الموجه سوق المنافسة، وهذا يشمل خطباء الجمعة، والمحاضرين، والمذيعين، والإعلاميين، والمحرضين، والسياسيين، ورجال الدين، ومروجي الأفلام القصيرة على قنوات التواصل الاجتماعي... فصار لزاما على من يدخل هذه السوق أن يتمرن جيدا على التمثيل والمزاودة والأساليب الشعبوية في استقطاب الجمهور، بغض النظر عن مضمون كلامه.. وهنا لا حاجة للصدق بتاتا..
لكن التنافس الأخطر، هو ما يجري بين الشركات الربحية العملاقة، التي سحقت الفقراء بأطماعها التي لا تعرف حدا، والمفارقة أن التنافس أبقى على الشركات الاحتكارية التي تفردت بالسوق وتحكمت بالعباد ورفعت الأسعار كما يحلو لها.. أما التنافس الأسوأ على الإطلاق؛ فهو سباق الدول والحكومات والأحزاب والميليشيات والقوى الطائفية على توسعة مناطق نفوذها، وبسط هيمنتها على الأرض والموارد والناس.. بقول آخر تنافسها الدموي العنيف الذي تسميه نضالا أو جهادا.. وهو في حقيقة الأمر مجرد صراع مادي بائس؛ سحق البشر وقيمهم ومُثُلهم وأحلامهم تحت عجلاته المتسارعة التي لا ترحم...
في المحصلة، دخل الجميع بإرادتهم أو غصبا عنهم ميدان التنافس، ولم يعد للناس وقت للراحة أو للتأمل، لم يعد بوسعهم العيش بشكل طبيعي بحياة عادية بسيطة.