عطا الله شاهين " رحيلُ امرأة "

تنزيل
حجم الخط

كانتْ تلك المرأة قدْ جهّزتْ شنطتها، وعلمتْ بوقتِ رحيلها، ولمْ تغفل أنْ تخبئ الرّوايات بين أمتعتها، وكانتْ طوال النّهار تترقبُ هاتفَ صاحبتها ناتاشا، فلم تسرّ مُقلتها إلّا حينما سمعتْ رنين الهاتف الخليوي، فأسرعتْ إليه، وقد تبدّدتْ هواجسها في لمحةِ بصرٍ، وانتهى قلقها، فبدا على مُحيّاها الارتياحُ، عندما سمعتْ صوتَ ناتاشا حينما قالت لها: جهّزي نفسكِ، فالوقتُ المحدّد للقاء السّاعة التاسعة مساءً في ذاك الشّاليه المُهمل، الّذي لا يبعدُ مسافة بضعة عشرات الأمتار عن ذاك البحر، فردّدتْ عليها فرِحةً عجباً يا ناتاشا ألمْ يحدّدُ المكانُ من قبل، فلماذا إلحاحُكِ لكيْ تذكّريني به، فقالتْ لها صاحبتها ساخرة : ليس الاستعداد من الغضاضةِ في شيء، المهمّ هو أنْ تأتيَ في الوقتِ المُحدّد، فإلى لقاءٍ قريب.

أتمّتْ المُكالمةَ فشعرتْ حينها برعشةٍ تنسابُ في بدنِها، لمْ تدرك حقيقةَ ما تشعرُ به، أهو القلقُ من اقترابِ وقتِ الرّحيل، أمّ خوفٌ قدْ بدأ يتغلّبُ عليها لخطرٍ ما خافتْ منه، لقدْ حلمتْ منذُ بضعِ ليالٍ بهذا المساء وهذا الرّحيل .

كانتْ تشاهدُ في هروبِها بدايةً مغايرة، بلى، كانتْ تدركُ أنّ ما تقبلُ عليه هو رحيلٌ غير مُطمئن. رحيلٌ للمجهول، قدْ يفتحُ بين يديها أبواباً مُغلقة، أو بالأجدرِ هذا ما وطّنتْ عليه قلبها، فأنستْ الامتثالَ إلى رأي صاحبتها ناتاشا، إذ لا تربطُ بينهما سوى المحبّة أو الصّداقة الجيّدة، بلْ يربطُ بينهما أيضا الشُّعورُ بالفشلِ والخداعِ في كلّ ما صادفهما منْ شدائدِ الزّمن، إذ قاستا معاً قلّة العملِ طوال شهور تتالتْ وتشابهتْ حتّى ظنّتا أنّه المنُون. هذا ما هوّن الحياةُ في مُقلتيّ كلّ منهما، وجعلها ليلة حالكة تقضّ مضجعيهما، وتدفعهما إلى التشبّثِ بعالمِ المنامات. فهي على وجهها المُحبّب والمنفّر تهبهما القدرة على الرؤية، فاستأنستْ بها المُقل، لا تجفاها كما تجفى الظّلمة المطبقة، لطالما كانتْ تظنّ أنّ بلدّها هي الأوطان التي تربّتْ فيها، لكنّها كفرتْ بذلك يومَ اكتشفتْ بلدها الحقيقيّة، ألا وهو بدنُها الّذي سكنته طيلة هذا العُمر، والّذي أتعسها العوز والسّغب والشّظف والقبول بالقليل من كلّ شيء، لذلك أصرّتْ على السّعي في سبيلِه والذود عنه، فهي البلد التي تلجئها طيلة حياتها، وعليها إلباسها وإفطارها وإكرامها والسّعي إلى تجنيبها المهالك.

تفقّدتْ أمتعتَها مرّة أُخرى قبل خُروجِها من البيتِ، وألقتْ نظرةً أخيرة على كلِّ زوايا حُجرتها قبل أنْ تترُكَها، لمْ يكنْ يوجدُ أحدٌ سواها في الشّقّة، كانتْ شوارعُ البلدةِ شبه مُقفرة، باستثناءِ مُرتادي الباراتِ وعُمّال البلديّة، لمْ يكنْ يهمّها قبل ذلك أمرهم، إلّا أنّها في هذا المساء قدْ خطرَ لها أنّ هؤلاء جميعا ظلّوا السبيل الّذي وجدتُه، فألقتْ على كلّ مَنْ تعترضُه منهم نظرةً ملؤها الشّفقة والرأفة.

وصلتْ أخيراً إلى الشّاليه المتروك، فدنتْ بحذرٍ وهي تلتفتُ في كلّ النّواحي، كانتْ العتمةٌ ووحشةُ المكان قد جعلتا الذّعر يدبُّ في قلبها، لمْ يهنأ بالُها إلّا عندما سمعتْ صوتَ صاحبتها النّاعم تُخاطبها قائلة: أهلا، ما مِنْ أحدٍ سوانا بالمكان، لكنْ لا تقلقي، وما أسرع أنْ يأتي الكُلّ، لمْ تكدْ تتمّ حديثها حتّى أبصرتا ظلّاً آتياً، فتبيّنتاه حتّى اتّضحَ لهما أنّه الرّجُلُ الّذي كان يعدّ لرحيلِهما خارج البلد، وقدْ بدا عليه التوتّر، فألقيتا عليه التّحية، وما أشدّ ما دُهشتا منه حينما شاهدتاه يخرجُ من بين طيّاتِ ثيابه مديةً قائلاً: ناولنني كلّ ما بحوزتِكما من نقودٍ، فردّتْ عليه ناتاشا: وما أشدّ طمعكَ، ألمْ نتّفق على مبلغ معينٍ كمعلوم للسّفر، فردّ عليها الرّجل هازئا: ألم تفهما بعدْ، ليس هناك أيّ سفر، ناولنني كلّ المالَ الّذي معكما وإلّا ذبحتكما الآن.

لمْ تعرفْ ما تفعلُ، لمْ تفكّر لحظتها إلّا أنْ تنسلّ فارّةً لتنجو بنفسِها وبما ادّخرته من مالٍ، إلّا أنّ الرّجُلَ قدْ كُشفَ قبل أنْ يتمّ أمره، فطعنَها، شعرتْ لحظتها بالألمِ ينزعُ بدنَها، فوقعتْ، لمْ تعدْ تسمعُ سوى صوت صاحبتها ناتاشا تقولُ لها: تمالكِ نفسكِ لا تخافي، لقدْ فرّ الملعون سأتمكّنُ مِنْ إنقاذكِ، لكنّها شعرتْ تلك المرأة بأنّ الحياةَ تنسلّ رويداً رويداً من بدنِها وأنّ لحظةَ فراقهما قدْ أتتْ، فسلِمتْ إلى ذلك وافترّتْ.