لم أفرح أنا العربي المسلم المستقيم الرأي الحامل الجنسية البريطانية، إلى جانب الجنسية اللبنانية، لأن الذي فاز يوم السبت، 7 مايو (أيار) 2016، بمنصب عمدة لندن، فقط لأنه مسلم، وإنما لأنني وأنا أعيش الأعاصير الهوجاء في دول عربية إسلامية، وكيف أنه لا قيمة للإنسان في وطنه، ترسخت في رؤيتي حقيقة أساسية، وهي أن الوطن الثاني بريطانيا لا خوف منها.. ولا خوف فيها.
كما لم يشمل الفرح كون عمدتنا (صِدِّيق خان) عماليًا، فأنا وعائلتي ننحاز عاطفيًا وولائيًا وعرفانًا بالجميل للمحافظين، وهذا سببه أنني عندما اخترتُ لندن ملاذًا آمنًا بعيدًا عن لبنان المبتلى باحترابات يخجل المرء من ذِكر وقائعها، وبالذات ما جرى فيها من عمليات انتقامية سبقت أفعال الداعشيين بأربعين سنة، ومنها السحْل والقنص والتدمير والذبح على الهوية، فإنني وجدتُ في بريطانيا الطمأنينة، ثم ما لبثت هذه الطمأنينة أن غدت فرصة متاحة لأن أحصل من حكومة المحافظين التي تترأسها مارغريت تاتشر على الجنسية البريطانية، وبذلك لم يعد ضروريًا الوقوف طويلاً في الطوابير المذلة حاملاً جواز سفرك اللبناني طلبًا لتأشيرة دخول. لقد باتت النظرة إليك نقيض ما كانت عليه طوال محاولات الحصول على تأشيرة دخول إلى بلد عربي أو أجنبي، وسماع ملاحظات حول الذي يجري في بلدك، وكيف أن الشعب منقسم على نفسه. هذا في خدمة مآرب دولة، وذاك مرتهن لسياسة دولة، وأولئك مجندون للتدمير.
نعم، لقد اقترف البعض من الذنوب ما يجوز تصنيفهم كافرين بنعمة الوطن الذي ينتمون إليه. وكان مأمولاً لهذه المحنة التي عاشها لبنان، احترابات من كل نوع وتدمير للقيم وإزهاق للأرواح، أن تضع نهاية لها بعد خشبة الخلاص التي رماها الملك فهد بن عبد العزيز وإخوانه وشعب المملكة في بحر الصراع اللبناني، وأعني بخشبة الخلاص «اتفاق الطائف» الذي أذاعه يوم الاثنين 18 سبتمبر (أيلول) 1989 أحد أدق الصيَّاغ الأمير سعود الفيصل (رحمة الله عليه).
وبهذا الاتفاق، كان إنقاذ الشرعية اللبنانية، والانتظام المتدرج في أعمال الإدارات الرسمية، وانتخاب رئيس للجمهورية. وعند التأمل هذه الأيام في أحوال لبنان إياه منذ سنتيْن، وكيف أن القصر الجمهوري من دون رئيس، يقول اللبناني بينه وبين نفسه: ما أحوجنا إلى خشبة خلاص جديدة، وإلى «طائف» بنكهة سلْمانية، خصوصًا أن خادم الحرمين الشريفين أخذ على عاتقه، ومنذ مبايعته، رتْق الثوب العربي – الإسلامي، وهو بند في قائمة واجبات تندرج في «رؤية المملكة 2030»، ذلك أن الرؤية ليست نأيًا عن معالجة الممكن معالجته من أحوال الأمتيْن.
طوال عقديْن من العيش في الوطن الثاني بريطانيا، حاملين جواز السفر البريطاني شأننا كمسلمين شأن البريطاني بروتستانيًا كان أو كاثوليكيًا أو يهوديًا أو بوذيًا أو سيخيًا، كنا آمنين مطمئنين في الوطن الذي لا خوف منه.. ولا خوف فيه، ما دام الصراط المستقيم لجهة الأمن، والالتزام بالقانون، وتسديد الضريبة هو قاعدة العيش.
وبموجب هذا الالتزام، فإن حقوقك كمواطن مصانة بنسبة الدقة المتناهية في تأدية الواجبات. وهنا، يجوز القول لا فضل لبريطاني أصلي على بريطاني وافد إلاَّ باحترام الأصول. في «الباص»، وفي قطار الأنفاق، يجلس الاثنان جنبًا إلى جنب وكأنهما من أصل واحد. في عيادة طبيب الحي، كل حسب الموعد، وضمن الاهتمام الطبيعي، لا يتقدم البريطاني الأصل على الباكستاني حامل الجنسية البريطانية، أو اللبناني، مثل حالنا بعدما بتنا نحمل هذه الجنسية.
وأما الذي اكتسبه الأبناء، وها هم الأحفاد على سكة الاكتساب، فكثير لجهة احترام النفس، واحترام القانون، واحترام التقاليد، وهؤلاء هم نواة جيل التغيير المتدرج في بعض الأقطار العربية، إنما بعد أن تتم إزالة ظواهر، نرى أن الاختيار الواعي مِن قِبَل 65.6 في المائة من المليون وثلاثمائة ألف ناخب لندني للبريطاني اكتسابًا للجنسية، المحامي صِدِّيق خان، العصامي ابن العائلة المكافحة المحدودة الدخل، الذي رباه والده سائق «الباص» لمدة 25 سنة مع ستة من أشقائه وشقيقة واحدة، مقابل 34.5 في المائة لمنافسه اللندني العريق والملياردير زاك غولدسميث.. إن من شأن هذا الاختيار أن يلهم الساعين من أجل إحداث التغيير بمبادرات مسؤولة، ووفق منهجية وبلورة للرؤى، وهذا ما نتلمس ملامحه في الدور الذي تقوم به القيادة السعودية، ويتولاه بما يخص المملكة أحد رموز مرحلة التطوير والتغيير في المجتمع الدولي، الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي ولي العهد وزير الدفاع. وتشاء الصدف أن يكون هؤلاء الرموز في سن شبابية وحيوية ملحوظة، الأمر الذي يسرِّع في تحقيق الإنجازات، ومن هؤلاء الأحدث تألقًا في خريطة المفاجآت الإيجابية رئيس وزراء كندا، ترودو الابن، قبل صدِّيق خان الذي سيكون رئيساَ لبلدية بريطانيا الحائرة حتى بضعة أسابيع في أمر أن يكون التاج ضمن الاتحاد الأوروبي، أو يبقى خارج هذه المنظومة التي عوائد بريطانيا منها بقدْر فقدان تفرُّدها.
وعندما تبلغ ميزانية بلدية لندن عشرين بليون جنيه إسترليني (نحو نصف ميزانية بلدية نيويورك البالغة 78.5 بليون دولار)، وأمام ميزانية بلدية بيروت العاصمة التي منها كانت الهجرة بالاضطرار إلى بريطانيا، والتي كان التعبير عن فوز لائحتها حفلة جنون من إطلاق المفرقعات والرصاص طوال الليل، فإنها نصف مليار بالكاد تكفي لعلاج كارثة النفايات، فللمرء أن يتصور أي أهمية هو عليها دور رئيس بلدية لندن.
ما نريد قوله إن انتخاب صِدِّيق خان رئيسًا لبلدية لندن في زمن حالات من الجنون والبشاعة والخروج عن القيم يقترفها مسلمون في بعض الدول العربية ودول العالم، هو نوع من القبول بالإسلام الذي يشارك في خدمة المجتمع ويتصدى للعنف، كما أنه رسالة إلى الأطياف الإسلامية المليونية التي هجَّرتها ممارسات تجمع بين الخطأ والخطيئة في بلادها الأصلية ووجدت في بريطانيا خير ملاذ.
وتكرارًا أقول ذلك، وأنا محافظي الهوى تكريمًا للسيدة مارغريت تاتشر التي في عهد حكومتها بات لي، ولمن يحمل الجنسية البريطانية، حقوق وعلي واجبات، ومن دون أن تشكِّل عروبتي وإسلاميتي حائلاً دون ذلك. أليس هذا ما تَحقق وبكرامة للمحامي العمالي صديق خان الذي سيؤسس لتعميق هذا المفهوم جيلاً بعد جيل. وإلى أن نحظى بتيار بريطاني ينهي الظلم الفلسطيني، ويعوِّضنا وعود المن والسلوى في الموضوع الفلسطيني، التي عشَّمنا بها باراك أوباما، وها هو على أهبة الانصراف من دون أن يفي بما وعد، فإننا نتمنى وقد بات ممكنًا ترؤس مسلم يعنيه بطبيعة الحال أمر فلسطين، والمسجد الأقصى بالذات، أن ينشأ التيار المشار إليه علّه يساعد في نشْر الاستقرار في ديار الأمة. ومثل هذا الأمر لا يتحقق إلاَّ بعد تصحيح وعْد بلفور. عسى ولعل.
عن الشرق الاوسط