بعدما أطلق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إشارة الاتجاه نحو اليسار، عاد وانحرف بسرعة إلى أقصى اليمين، مربكاً الكثير من المعلقين.
وكانت مفاوضات نتنياهو مع حزب العمل لتوسيع حكومته قد خرجت إلى العلن بعدما بقيت طويلاً خلف الكواليس، ما أوحى أن دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإسرائيل لاستئناف العملية السياسية جزءٌ من هذه المفاوضات. ولكن في اللحظة الحرجة، أعلن زعيم «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، استعداده لدخول حكومة نتنياهو إذا جرت تلبية بعض شروطه، وبينها الحصول على وزارة الدفاع. وتلقف نتنياهو الاستعداد واهتزت الحلبة السياسية الإسرائيلية بإعلان الاتفاق بين الطرفين على بدء مفاوضات الدخول للحكومة.
وتوضح التطورات الأخيرة حقيقة اللعبة الجارية في الحلبة السياسية الإسرائيلية، والتي أساسها توق نتنياهو للبقاء، وتكريس زعامته لليمين. وظهر هذا التوق مؤخراً في الصدامات التي وقعت بينه وبين وزير دفاعه موشي يعلون، والتي وإن اتخذت جانباً قيمياً، إلا أنها في الحقيقة كانت تعبّر عن عدم رضى اليمين من «رسمية» يعلون، وحاجتهم إلى ركيزة يمينية أقوى. وكان الخلاف على أشده داخل الليكود، حينما بدا أن خشية يعلون من إطاحته بسبب المفاوضات في حزب العمل كانت تستند إلى أساس. ولكن هذه الخشية ازدادت حينما ظهر على الساحة من جديد أفيغدور ليبرمان كلاعبٍ في مفاوضات توسيع الحكومة.
ومن الوجهة النظرية، كان المبرر للمفاوضات مع حزب العمل توفير قاعدة إسرائيلية واسعة لمجابهة الحملة الدولية لفرض حل سياسي على إسرائيل. وكان عنوان هذه الحملة المبادرة الفرنسية التي رفضتها حكومة نتنياهو. ولكن كان الهدف، ظاهرياً، هو مجابهة حالة العزلة التي يمكن أن تفرض على إسرائيل جراء تنامي مظاهر المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية لها وجراء الرغبة الدولية في التخلص من النزاع العربي الإسرائيلي. ولكن الهدف الفعلي كان منح حكومة نتنياهو فرصة أكبر للبقاء بعدما تزايدت التشققات في المعسكر اليميني، وإثر تعميق الخلافات حول مواجهة الهبة الشعبية الفلسطينية والتعامل مع الأفق السياسي.
ويمكن القول إن مفاوضات زعيم «المعسكر الصهيوني»، اسحق هرتسوغ، مع نتنياهو، شرخت العلاقات بين كتلة حزب العمل في هذا المعسكر وكتلة وزيرة الخارجية سابقاً تسيبي ليفني، التي عارضت أي دخول في حكومة نتنياهو. لكن المشكلة الأكبر التي واجهت هرتسوغ كانت داخل حزبه وداخل الرأي العام الإسرائيلي. فقد وصف كاريكاتير هرتسوغ بأنه ماسح أحذية يرجو نتنياهو أن يوفر له فرصة عمل. ويمكن القول إن خسارة حزب العمل وهرتسوغ من المفاوضات مع نتنياهو كانت كبيرة.
ولم تزدد قيمة هرتسوغ بعدما أعلن أنه لا يمكن أن يجري مفاوضات للدخول في ائتلاف مع نتنياهو ما دام الأخير يجري مفاوضات مع ليبرمان. وربما أن هذا الإعلان سهل لنتنياهو تحقيق مراده بالاقتراب والتوافق مع ليبرمان، الذي كان الظهير الأساسي لنتنياهو في بداية حياته السياسية قبل أن يتحولا إلى «الإخوة الأعداء» لاحقاً. وتقريباً، يصعب إيجاد شخص أبدى مواقف حادة من نتنياهو أكثر من ليبرمان على الصعيدين الشخصي والسياسي. وكثيراً ما اتهم ليبرمان نتنياهو بالانتهازية والخداع والكذب. لكن نتنياهو اليوم بحاجة لليبرمان لإنهاء مرحلة اعتماد حكومته على أغلبية صوت واحد في الكنيست.
وفي كل حال، أطلع نتنياهو وزراءه مساء أمس على واقع عَرضِه على ليبرمان وزارتي الدفاع والهجرة. وجاء ذلك إثر لقاء جمع نتنياهو مع ليبرمان للتباحث في أمر الانضمام للحكومة. وقاد اللقاء كما سلف إلى إحداث هزة في الحلبة السياسية الإسرائيلية. فقد كانت هناك تخوفات داخل الليكود و «البيت اليهودي» من أن سعي نتنياهو لضم «المعسكر الصهيوني» يعني التوجه نحو إحياء العملية السياسية. ولذلك مارس قادة الليكود ضغوطاً هائلة لمنع نتنياهو من الإقدام على هذه الخطوة. أما «البيت اليهودي» فرحب بانضمام ليبرمان وحزبه، وبارك إبعاد موشي يعلون عن وزارة الدفاع. وقال «البيت اليهودي» إن ليبرمان وحزبه لعبا دوراً مهماً في التضامن مع الجندي قاتل الجريح الفلسطيني في الخليل، وأنه سيحمل معه إلى وزارة الدفاع فلسفة مغايرة تماماً لفلسفة يعلون.
عموماً، بعد لقاء نتنياهو وليبرمان تقرر إنشاء طواقم مفاوضات بين الطرفين يرأس جانب الليكود فيها يائير ليفين. وتقول مصادر متعددة إن نتنياهو سيلتقي مرة أخرى مع ليبرمان وأن الاتفاق النهائي بين الطرفين وشيك ويتضمن تعيين ليبرمان وزيراً للدفاع.
ومن الجلي أن دخول ليبرمان إلى الحكومة الإسرائيلية سيزيدها يمينية، عدا أن تعيين ليبرمان وزيراً للدفاع يعني، بدرجة ما، تغيير السياسة التي تنتهجها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومعروفٌ أن ليبرمان طالب في الحرب الأخيرة على غزة بإسقاط حكم «حماس» كما أنه يعلنها جهاراً أنه لا يرى حتى في الرئيس الفلسطيني محمود عباس شريكاً في التسوية. ويطالب ليبرمان بحزم أشد في مواجهة الهبة الشعبية الفلسطينية. لكن ليبرمان، في المقابل، ميال إلى فكرة الحل من طرف واحد في مواجهة الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وواضح أنه إذا طرأ تغيير على السياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، فإن احتمالات انفجار الوضع تزداد. وإذا كان الجيش، بحسب الصحافة لإسرائيلية، قد لعب حتى الآن دوراً كابحاً، فإن تعيين ليبرمان وزيراً للدفاع يعني الضغط باتجاه دفع المؤسسة العسكرية لتغيير سياستها والتصرف بحدة وعدوانية أكبر.
تجدر الإشارة إلى أن ليبرمان لم يكن فقط يطالب بمناصب بل كان يسعى لامتلاك صلاحيات لتنفيذ سياسات لا تتعلق فقط بالعلاقة مع الفلسطينيين، وإنما تتخطاها لتحديد صورة الدولة والمجتمع. ولليبرمان مطالب تتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة، وهو في ذلك على تناقض مع اليمين الديني، لكن مواقفه ضد العرب مواطني الدولة واعتبارهم «طابوراً خامساً» تجعله مقرباً من كل القوى الفاشية.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن توسيع الحكومة الإسرائيلية واندفاعها يميناً قد يتركان أثراً على الإدارة الأميركية، وربما على دول عربية وأوروبية، ويدفعانها إلى مواقف أكثر حدة من حكومة نتنياهو بردائها الليبرماني.