كان الجو حارا في شهر آب اللهاب , والمعتقلون من الفدائيين الذين اعتقلهم الجيش الأردني , بعد أيلول الأسود 1970 , ومعركة أحراش جرش وعجلون 1971 , والذين تم حشرهم في بركسات معتقل " الجفر" الصحراوي , يبلغ طول الواحد منها نحو ثمانية أو عشرة أمتار , بعرض أربعة أمتار , له بوابة ضيقة , وبضعة شبابيك صغيرة في أعلى السقف الذي يرتفع بنحو أربعة أمتار , وعلى أرضية البركس بطانيتان مهترئتان لكل معتقل , وعلى كل واحد أن يتدبر نفسه بهما كفرش ومخدة وغطاء , ويزدحم البركس بنحو مائة إلى مائة وعشرين معتقلا , يتم رصهم عند النوم كعلبة السردين , بحيث لا يستطيع الواحد منهم أن ينام على ظهره , حتى يتسع الحيز للآخرين , فيكون النوم على الجنب الأيمن أو الأيسر , لأن المتسع لكل معتقل لا يتجاوز الثلاثين سنتيمترا , وكثيرا ما كانت تحدث المشاكل بين المتجاورين , واتهامات بالتحرش الجنسي بل والادعاء من أحدهم بمحاولة اغتصاب جراء الاحتكاك في صيف حار , وهنا كان يتم اختيار الأصدقاء للتجاور , حتى لا يتم التجاوز من البعض بحق الآخرين , وخاصة إذا كانوا من صغار السن من الفتية والأشبال , وكان على قيادة البركس حل المشكلة , بالنوم متقابلين بالوجه أو بالظهر تفاديا لأي احتكاك , وفي ظل هذا الزحام الكبير لم يكن لهذا الحشد من المعتقلين , سوى حمامين يتعرضان للازدحام الشديد كل صباح لقضاء الحاجة , أو لغسيل الوجه , حيث يصطف المعتقلون في طوابير بالعشرات بانتظار الدور , ولا يسمح باستغلال الحمام لأخذ دوش أو الاستحمام صباحا تفاديا للزحام , وكان على من يريد الاستحمام أن يعبئ جردلا من الماء , ووضعه في الساحة بعد الافطار عند ( الفورة ) لتسخينه تحت أشعة الشمس لكسر برودته , وعند ساعات ما قبل الغروب يذهب للحمام للتمتع بدش قصير يزيل عنه عرق النهار , وما علق به من قمل جراء قلة النظافة وقلة المياه , بحيث استغنى معظم المعتقلين عن ملابسهم الداخلية التي عشش فيها القمل بشكل كبير .. وكل ذلك يهون عن يوم الزحام المشهود في يوم موعود عندما قدمت للمعتقلين وجبة طعام فاخرة في مرة نادرة , من المنسف الأردني الذي تعلوه كتل من اللحم المسلوق , فأكل الجميع بنهم , ولكنهم لا يعلمون بما هو قادم لهم بعد ساعات من الغداء , حيث بدأ الجميع يشكو من المغص وحالات الاسهال الشديد , فكان الملجأ هو الحمام , بعد أن علموا أنهم تعرضوا لحالة تسمم " غير متعمدة " , بسبب فساد اللحم الذي تناولوه , حيث شهد أكثر من واحد أنه شاهد ختما على اللحم يشير إلى ذبحها منذ سنين .. وعمت الفوضى في البركس , وانتشر الصياح , وانتظم الجميع في طابور طويل , والكل ممسك ببطنه ومؤخرته , خوفا من انفلات ما في البطون من سم مخزون , كان أحدهم وقد وصله الدور على باب الحمام بعد عناء طويل , على المتواجد بداخله وقد أطال المكوث : هل خلصت .. لا ما خلصت , ويتكرر السؤال ويتكرر الجواب , والواقف يفقد الصبر بعد أن بلغ السيل الزبى , وصرخ على من بداخل الحمام خلص بسرعة , وتأتي الاجابة من الداخل : هيني خلصت , ويرد من يقف على الباب : طززززززززززززز .. وأنا خلصت !!