خرج علينا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في تصريحات تفيد بأن مبادرة السلام التي طرحتها باريس قبل عامين، تأجلت إلى موعد آخر هذا الصيف، على أساس أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري لن يتمكن الالتحاق للمشاركة في هذا المؤتمر.
هذا التصريح لا يعكس الموقف الحقيقي من قصة تأجيل المؤتمر الذي يفترض أن ينعقد أواخر الشهر الجاري بمشاركة أطراف الرباعية الدولية، ذلك أن وراء التأجيل تكمن القصة الحقيقية التي تُطلع المتتبع في مسيرة العلاقات الدولية كم هو حجم التأثير الأميركي على الكثير من دول العالم، بما فيها الحلفاء الأوروبيون الاستراتيجيون.
أولاً يكمن سبب التأجيل في أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعارض المبادرة الفرنسية لإحياء عملية السلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ولا يعتبرها إطاراً للحل، وكثيراً ما اعترض نتنياهو على هذه المبادرة كونه يعتقد أنها تفتح شهية العديد من الدول الأخرى للتوسط في مصير الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
طوال كل الوقت كان يريد شخص مثل نتنياهو وقبله "الطاقم" السابق لرؤساء وزراء دولة الاحتلال، الاستفراد بالقضية الفلسطينية من حيث التفاوض ومد هذه العملية بالوقت المستهلك، دون تقديم أي حلول تستهدف حتى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولم يكن يمنع نتنياهو وأسلافه أن تتدخل الولايات المتحدة الأميركية للتوسط في موضوع المفاوضات، دون أن تقدم لها أي معطى ينقلها إلى المرحلة التالية، أي نسخة محسنة من المفاوضات مرتبطة بتطبيق الالتزامات، والسبب أن واشنطن وتل أبيب تشتغلان على قلب رجل واحد ورؤية واحدة تقوم على مسك المفاوضات والتحكم في مصيرها دون تدخل أحد.
نتنياهو الذي كان يستدعي لازمة الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، ويضعها فوق كل طاولة تفاوضية من أجل نسف المفاوضات من الجذور، يتمسك هذه المرة برفض المبادرة الفرنسية على اعتبار أنه يرغب الذهاب إلى مفاوضات مباشرة ودون أي شروط مسبقة.
حسناً ماذا يريد نتنياهو؟ الرجل يريد أن يتفاوض بينما عمليات الاعتقال وإطلاق النار على أشدها في الضفة الغربية، ويريد أن يتفاوض وسياساته اليومية العنصرية حاضرة، وزنازينه تزداد يوماً بعد يوم بالأسرى الفلسطينية.
نعم يريد رئيس الحكومة الإسرائيلية التفاوض دون شروط، كأن يتحدث الفلسطينيون عن ضرورة وقف الاستيطان الزاحف في الضفة، والتهام القدس الشرقية وتهويدها، والحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، لأن كل ذلك من شأنه أن يُواجه بمطرقة الاستيطان، فضلاً عن فزاعة "الدولة اليهودية".
ثم إن شخصاً مثل نتنياهو لا يريد حل الدولتين ولا حتى مصير الدولة الواحدة، لأنه يدرك في نهاية المطاف أن دولة فلسطينية مستقلة تعني وجود مقومات السلطة المتمكنة والسيادة والأرض والشعب، وهذه إذا توفرت تمثل لشخص مثل نتنياهو تهديداً حقيقياً مجاوراً له.
أما بخصوص الدولة الواحدة فهي في حالها أو في حال الدولتين ستصطدم بالديموغرافيا الفلسطينية، لذلك هو يتصور أن التأكيد على يهودية الدولة والتنازل الفلسطيني عن حق العودة، سيعني صفاء الدولة اليهودية من العرب، ونقل حوالى مليون ونصف مليون فلسطيني في الداخل إلى أراضي السلطة الفلسطينية.
لكل ذلك يرفض نتنياهو وخلفه المجتمع الإسرائيلي المبادرة الفرنسية، وحتى أي مبادرة أخرى غير أميركية، استدراكاً من أن الأخيرة قلبها على إسرائيل ولا تورطها في مفاوضات ثنائية تحقق أي مخرجات إيجابية لصالح القضية الفلسطينية.
أضف إلى ذلك أن نتنياهو ليس هو الوحيد الذي اعترض على المبادرة الفرنسية، إنما مارست واشنطن ضغوطها من أجل إفشال هذه المبادرة التي خرجت طريقة التعبير عنها بشكل ناعم، منعاً لإحراج فرنسا هولاند الذي "دق على صدره" وتحمس بإمكانية فعل شيء لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط.
هذا التأجيل لم يكن الأخير بخصوص المبادرة الفرنسية، إذ حصل وأن أجّلت واشنطن عرض المبادرة على مجلس الأمن، حتى لا يتم الاهتداء بها كمظلة دولية وإطار مرجعي للمفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، وهو الأمر الذي قبلته باريس على مضض حين كان فابيوس وزيراً للخارجية الفرنسية.
اليوم عاد وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيروليت إلى باريس بخفي حنين بعدما التقى نتنياهو، حاله حال هولاند الذي عوّل على الألمان والبريطانيين في إمكانية الدفع نحو مبادرة أوروبية تستهدف عملية السلام في الشرق الأوسط، لكنهما تراجعتا عن دعم فرنسا لتطوير مبادرتها خوفاً من "السيد" الأميركي.
هذا يعني أن المبادرة الفرنسية ولدت ميتة، طالما وأنها خضعت للتأجيل أكثر من مرة، وطالما توجد اعتراضات عليها، كما يعني أن هذه المبادرة حتى لو عُقدت في صيغة مؤتمر دولي للسلام، فإنها لن تخرج عن كونها مكرورة ومناسبة ودية لالتقاط الصور التذكارية.
ثم إن واشنطن التي ابتعدت كثيراً عن ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، تُفضّل أن يبقى الفراغ مسيطراً على هذا الملف، خير من أن تأخذ دولة أوروبية مكانها في التوسط لإحياء المفاوضات، ولذلك نحن أمام صيف حار جداً، صيف مبادرة مُحاصرة.
بالمختصر المفيد سيسعى نتنياهو إلى إبقاء الوضع على حاله، تشديد أمني من جهة، وقمع وضرب واستهداف، وترييح قليل وشبه "بحبوحة" اقتصادية، حتى لا تنفجر الأمور وتخرج عن النص الذي يرسمه، والذي يتمثل في وجود سلطة وطنية تبقى وظيفتها لا تتجاوز الحكم الذاتي.
أيضاً يريد نتنياهو إشغال الفلسطينيين بالوضع الإنساني، وتحويل القضية من صراع مع الاحتلال وتأكيد حق العودة وإطلاق سراح الأسرى ووقف الاستيطان، إلى قضية إنسانية تستهلك الوقت في اجترار جروحها وأوجاعها.
وهذه ذات الرسالة التي يريد نتنياهو تسويقها إلى المجتمع الدولي، بأن على الأخير تناسي أن القضية الفلسطينية صاحبة حق وعادلة، وإنما هي قضية إنسانية ينبغي التعاطف الدولي معها وتقديم الدعم لها وكفى المؤمنين شر القتال!!
وكالعادة يُسّهل المسؤول الفلسطيني ما تريد إسرائيل القيام به، حيث يكرس الانقسام ولا يشتغل بقلب وضمير على الوحدة الوطنية، فهو بهذا التصرف غير الناضج يختصر الطريق على دولة الاحتلال للتمكن أكثر من القضية الفلسطينية والنيل من حقوق شعبها الصامد.