الطبخة التي طبخها السفير الإسرائيلي، غير مؤهل سياسياً، في واشنطن مع رئيس مجلس النواب الأميركي الداهية، والنابعة من اعتبارات سياسية ضيقة، تحولت ربما للضرر الأشد خطراً في مسيرة العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة. لا يجري الحديث عن حادثة تمر مرور الكرام عبر تلطيف وقاحة اسرائيلية مغتفرة، بل عن أزمة عميقة سيحتاج إصلاحها إلى عقد من الزمن، وأدت إلى إلحاق ضرر غير قابل للإصلاح في مساعينا لوقف مشروع الذرة الإيرانية.
الرد الأميركي غير المعتاد عكس غضبا متراكما إزاء الدولة التي يتعلق أمنها وازدهارها تعلقاً تاماً بالولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك تسمح لنفسها مرة تلو الأخرى بان تبصق في وجه راعيها. لقد اجتازت هذه المرة كل الحدود. الغضب الذي تفجر علانية بسبب خطوات رئيس الوزراء، تجمع عبر سنوات على خلفيات منوعة «للمساوئ الإسرائيلية»، خصوصا في الموضوع الفلسطيني والمستوطنات. هذه المساوئ جعلت من تأييد أعضاء الكونغرس واليسار الأميركي لإسرائيل أمراً بالغ الصعوبة وأقل تبريرا.
هذه هي المرة الأولى التي سيجعل الظهور المتوقع لرئيس الوزراء أمام الكنغرس من إسرائيل موضوعا للخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين. منذ قيام الدولة عملت كل حكومات إسرائيل والقيادات اليهودية في الولايات المتحدة جاهدة لوضع إسرائيل على مسافة متساوية من كلا الحزبين الأميركيين، وباعتبارها فوق كافة الانقسامات السياسية. وقد شكل دعم كلا الحزبين لإسرائيل أساس «العلاقات الخاصة «. التصريح الصادر عن نائب الرئيس، جو بايدن، ونواب ديمقراطيين آخرين حول قرارهم مقاطعة خطاب نتنياهو أمام الكونغرس، مؤسف جداً. يبدو واضحا أن إظهار كل هذا الغضب، والذي ليس له سابقة في التاريخ الثنائي، يهدف إلى التوضيح لإسرائيل بإنها إذا سمحت لنفسها بإهانة الرئيس فإن أميركا سترد لها الصاع سبع مرات. واحتمال أن يبقى مقعد نائب الرئيس، الموجود بالضبط خلف منصة الخطابات في الكونغرس مقابل كاميرات التصوير، فارغا.. حقيقة يجب أن تثير الذعر في القدس.
أيضا، فإن ظهور رئيس الوزراء المقرر أمام الكونغرس، والذي هو في أساسه محاولة لتجنيد الكونغرس ضد الإدارة الأميركية، يجعل إسرائيل تقف بين نيران السلطتين، التشريعية والتنفيذية، وهذا عمل عديم المسؤولية بذاته، ومحكوم عليه في كل الأحوال بالفشل. لم يحدث أبدا أن تمكنت إسرائيل من تجنيد الكونغرس ضد موقف ثابت للإدارة الأميركية. وأساس نجاحات إسرائيل السابقة مع الحكومة الأميركية كان يتم عبر تشجيع الإدارة على السير باتجاهات يسهل عليها تبنيها. ربما اتخذت الادارة احتياطاتها هذه المرة في الموضوع الايراني لأسباب مختلفة. منذ فشل جهودنا لمنع بيع طائرات الآواكس للسعودية، العام1981، احتاطت كل الحكومات الإسرائيلية من تكرار محاولة تجنيد الكونغرس للصراع الجبهوي مع الادارة.
ربما كان هذا الضرر سيُحتمل لو أن ظهور نتنياهو كان من شأنه أن يحقق هدفه المعلن؛ أي منع الادارة من التوقيع على اتفاقية سيئة مع إيران، ربما تضع إسرائيل في مواجهة خطر وجودي. ليس فقط أن هذا الهدف لن يتحقق ولكن من الواضح أيضا أن الدوافع الحقيقة وراء زيارة نتنياهو هي بمثابة محاولة من رئيس الوزراء لاستغلال منصة الكونغرس لأغراضه السياسية عشية الانتخابات. وبما يخدم رئيس الكونغرس، جون باينر، عبر دق اسفين تاريخي بين الدمقراطيين والجمهوريين في الموضوع الإسرائيلي.
تسبب الخطاب سلفا قبل القائه بنتائج معاكسة لهدف نتنياهو المعلن: عشرة نواب ديمقراطيون من أشابين تجديد العقوبات مع إيران تخلوا عن موقفهم الداعم لسن قانون العقوبات هذا، وأعلنوا وقوفهم إلى جانب الرئيس. ووفقا لذلك يجب الانتظار حتى نهاية آذار، وهو التاريخ النهائي للتوقيع على اتفاق مع ايران، قبل تجديد العقوبات وفرض عقوبات إضافية. سن هذا القانون، الذي حاز قبل قرار نتنياهو على دعم الحزبين وشكل قاعدة الموقف الأميركي- إسرائيلي في مواجهة إيران، انهار تماما. ولم يعد واضحا فيما إذا كان سيتم توفير أغلبية لتمرير قانون العقوبات أم لا. وإذا توفرت الأغلبية فإنها لن تتجاوز نسبة الحسم إلا بقليل بفضل أصوات الجمهوريين ذوي الاغلبية في الكونغرس لا غير، في الموضوع الذي عملت إسرائيل طوال عقدين من الزمن للحفاظ عليه كموضوع ثنائي بين الحزبين.
ليس هذا فحسب: في هذا الجو المتعكر الذي تولد، يصعب الآن تجنيد أغلبية من كلا الحزبين لفرض عقوبات على إيران حتى لو فشلت المباحثات نهاية آذار، وهو الأمر الذي كان مضمونا قبل قرار نتنياهو. بيديه دمر نتنياهو ما عمل جاهدا على بنائه في مواجهة الذرة الإيرانية، أي قاعدة المشاركة الأميركية كأساس لهذه المواجهة، والتي بنيت بمشقة كبيرة.
لهذا يجب أن نضيف الغضب الذي تفجر في اوساط مؤيدي إسرائيل المتحمسين لتدخلها الفظ في السياسة الأميركية وعلى الاستهتار بالرئيس والتي لن تنسى بسهولة. حتى الجمهوريون، الرابحون الوحيدون من هذه الكارثة سيسجلون في دفاتر مذكراتهم ملاحظة للبحث، «إن من سمح لنفسه بالتدخل في اللعبة السياسية لصالح طرف، يمكن أن يعبر لمعسكر الخصم عندما تتغير الظروف».
تستند علاقات إسرائيل- الولايات المتحدة على أسس متينة لا تسمح لها بالإنهيار في هذه المرحلة. ستستمر الإدارة في دعمنا بأشكال مختلفة، حتى لو تم ذلك بدون رغبة قوية. ولكن نتنياهو الذي يتبجح بأنه الخبير في كل ما يمس الولايات المتحدة الأميركية استخدم المصالح الاستراتيجية المهمة جدا لدولة إسرائيل لاعتباراته الإنتخابية، والضرر على ذلك سيأتي. ففي الحالات التي يكون فيها للإدارة مدى واسع لاتخاذ موقف سوف تتذكر ما فعله رئيس الحكومة، الذي يقف سلفا في مواجهة حادة مع الرئيس في الموضوع الفلسطيني. وعندما نحتاج للرئيس في المواجهة القادمة مع «حزب الله» أو «حماس»، وباستمرار علاج الملف الإيراني والمباحثات مع الفلسطينيين، ومواجهة المحكمة الجنائية في لاهاي أو في مجلس الأمن... هل سيسارع الرئيس إلى المساعدة؟
يصعب على نتنياهو الاعتراف بالخطر الكبير الذي أوجده وبالضرر الثقيل الذي سببه. ولكن الأمر الوحيد الذي من شأنه أن يكون أكثر خطورة على إسرائيل هو قاعدة العلاقات مع الولايات المتحدة. لذلك من الضروري أن يبحث عن عذر لتأجيل الزيارة (التظاهر بنزلات برد دبلوماسية، صعوبات في جدولة المواعيد، القاء الذنب على موظف ما وعلى سبيل المثال أحد السفراء، هذا يكفي).
عن «هآرتس»
"فتح": خطاب نتنياهو كان بمثابة استخفاف بالمنظومة الدولية
22 سبتمبر 2023