أيها الراحلونَ : أنا صوتُكم في الغصونِ،
وأحرُفُكم في البراري،
فلا تُنْكِروا في ثيابي الربيعَ،
ولا تهجروا بئرَ أغنامِكم إنْ ذهبتمْ،
ولا تتركوا النايَ للعنكبوتِ،
ألمْ تفرحوا للحليبِ الذي قد تقاطرَ في ليلةِ العُرْسِ،
والدمعُ منبسطٌ في النجوم؟
ألمْ تصرخوا بهجةً للصخورِ التي انشقحتْ
للأزاهيرِ والتينِ ؟
لا موتَ في هذهِ الأرضِ ! وانتظروا؛
إنني عائدٌ من جديد.
*
وفي أَوْجِها كانت الشمسُ؛
تشربُ لؤْلؤَها الحلوَ والملحَ،
لا ترتوي، قلبُها نَاغرٌ،
والغزالاتُ تمضي إِلى كهفِ خيمتِها .. عارياتٍ،
وغولٌ من الخوفِ والجوعِ يمتصّ أثداءَها،
لا سيوفَ هنا للطريقِ،
ولا مُهرَ في رُعبِ هذا الفضاءِ،
... انكسارُ المآذنِ، تيهٌ،
ومستنقعٌ للطريد.
*
وما رنَّ قلبٌ لأرنبةٍ في التلالِ،
وما انقشعت أُحجياتُ القبورِ،
هنا أو هناكَ النَّوى،
يبحثُ التائهونَ بهِ عن ملامِحِهِم،
في الدروبِ،
وما ظلَّ في البدرِ إلاّ السكاكين،
جفّ النحاسُ،
ذوى عودُ شبّاكهِ في الأغاني،
مزاميرهُ الشجنُ المُرُّ والدمعُ،
ساقوهُ للبيْعِ،
بابُ النخاساتِ يُفضي إلى قيدِ هذي الربوعِ،
ولكنَّ داليةً من شجونِ الضلوعِ ستنفرُ مُمْرِعةً في النشيد.
*
وكم أذهلتكَ الصواعقُ !
وامتدّ نابُ الأفاعي إلى مسكبِ الأرجوانِ،
وهذي مناديلُ أمّكَ في ساحةِ النطعِ غارقةٌ في الصعيد.
*
يُضيءُ دمُ الظبيِ أيامَ جَدِّي،
فيبني له بيتَ أسرارِهِ في الجبالِ،
ويتَّصلُ الموجُ بالموجِ،
تهتزُّ ساريةُ الأبجديةِ،
هذا الرجوعُ المُنقّى سيفتحُ عودتَنا،
إنْ بقينا على مَحْمَلِ البرقِ،
أو تُكملِ الوالداتُ مواعيدَ حمْلِ السواحلِ،
هذا الذي لن تهزَّ له أمُّهُ نخلةَ النهرِ،
إنْ لم يكن عابقاً بالوريد.
*
وجاء أبي، مثلما جئتُ،
في ظلِّ قندولةِ الدارِ،
والتوتُ يحمي النبيَّ اليتيمَ من النادباتِ،
لنا مثلما للطيورِ الحريرُ،
وزيتُ الحَرِيفِ،
وجمرُ المقاماتِ،
والضحكُ من فَشَلِ الصقرِ إنْ هَدَلتْ قُرْبَه تستزيد ..
سيضحكُ حتى يشعَّ الزجاجُ،
ويكويَ وجهي .. وأذكرُ موتَ التي قتلوها،
وخلّوهُ منفرداً في الحديد.
*
دمي عَرَقي،
صورتي في السماءِ،
أتيتُ إلى امرأةٍ في الطريقِ،
تصبّ يداها أباريقَ ثلجٍ،
وقالت : تعالَ،
فما خفتُ .. لكنّ طلعَتها مثلُ نورِ الشعاعِ،
وقفتُ، وما قلتُ شيئاً ..
وعدتُ وفي الصدرِ نارٌ ..
ومن يومها يصطفيني الحَمامُ ويكرهني الميّتون !
أرى في منامي الصناديقَ تطفو
على كتفِ البحرِ، أمضي إليها فتأخذني للشِّعابِ،
تراني،
فتأخذُ لوني،
ويدخلُ مَرجانُها في ضُلوعي،
وأطفو،
فيحملُني ألفُ طيرٍ إلى شجرٍ من لهيبٍ،
وتنثُرُني في الفضاءِ،
أرى جسدي ألفَ جُرْمٍ مُضاءٍ يسير
إلى كوكبٍ في البعيد.
*
نيازكُ تُشعلُ دربَ المجرّاتِ،
هذا أنا؛
الطفلُ من قريةِ العائدين،
لا يستوي الكَوْنُ حتى أكونَ،
ولن تكملَ الأرضُ زينَتها دون كفّي
التي سوف تقتلعُ الخوفَ،
من خلفِ ألفِ صريرٍ مريرٍ،
ويهتفُ للشمسِ كلُّ العبيد.
*
أنا عَطشُ السيفِ في صيفِ حربِ الوليِّ
الذي اقتربتْ منه آياتُ آبائهِ في المغارةِ،
قالت له :
كُنْ حَرفَ جدِّكَ ..
إنْ فَرَّ مِن ساحِكَ الأقربون،
وإنْ قطعوا رأسَكَ التاجَ قُمْ من مَماتِكَ،
وانهَضْ على ظمأ القَتْلِ،
واحْمِلْ على سيفِكَ الرأسَ؛
هذا كتابُ الذبيحِ المجيد.
*
أنا شهدُ خيلِ الملاحمِ
إنْ صَهَلَتْ في المُروجِ،
وإنْ جَمحَتْ نحوَ سُورِ التي فَتَحت بابَها بعدَ لأْيٍ،
وأطعمتِ الحربَ من صدرها ..
مجدُ مَنْ حُوصِروا بعدَ أنْ أيقظوا زَهْرَ كانونَ،
اِبنُ مَنْ نَحتَ الصخرَ في الوادِ طلقتَهُ للجهادِ،
أنا رِيقُ سرّيسةِ الشيخِ،
مِنْبَرُهُ الراشديُّ،
وقمصانُ مصحفِهِ وهو يَتْلُوهُ حُرّاً بحيفا،
أنا ابنُ الشهيدة أُمّي،
حفيدُ الرسولةِ وابنُ الشهيد.
*
أنا ابنُ عناقٍ، أميرُ العماليقِ،
لي عَرْشُ مَنْ رفعت للمرايا المياه،
أنا خاتَمُ الجانِ،
مَنْ يحبسُ الريحَ أو يستريحُ على دمعةٍ في الصلاةْ،
أنا وحشةُ الوردِ إنْ حرقوا ياسمين الحياةْ ،
أنا يوسفُ الجُبِّ والطُّهْرِ،
حُلْمُ السنابلِ، مُلْكُ الجداول،
واللونُ مُتّقداً في البريد.
*
أنا الصُّبُحُ،
زيتونةُ التلِّ والسَّهْلِ،
كوفيّةُ الفَهْدِ،
ليلُ الرصاصِ النهاريُّ،
نورسةُ البرتقالِ،
وآذارُ زهرتِها القرمزيُّ،
عرُوسُ الصفيحِ
ونايُ خلاخيلها السُّنبُليّ ..
أنا الصُّبُحُ أُغنيةٌ للبداياتِ حتى تعودَ الشظايا،
ونجمعها من غبارِ الطحينِ،
هو الصُّبحُ أحراشُ مَنْ كسروا قِشْرَ وَهْمِ الخيانةِ والخوفِ،
لم يرجعوا للغموضِ المريضِ،
ولو قُتِلوا واقفين.
هو الصُّبحُ في السجنِ والكهفِ أو في التوابيتِ،
مَنْ تركوا الدارَ والجارَ والزَّغبَ الحُرَّ،
لم يركعوا صاغرين.
هو الصُّبحُ حريةُ الروحِ في كرنفالِ الشهيدِ السعيد.
*
لماذا المزاميرُ تجرحني في الليالي ؟
وطوقُ الحماماتِ في معصمي أحمرٌ
مثلُ دمعِ السؤالِ ؟
أنا خارجٌ من قيودي
إلى قمرٍ في الخُزامى ..
ليحملَني شالُ مِسْكِ الغزال .
ولن أسالَ السروَ عن زمنٍ أخذوا طِفْلَهُ،
فهو في بُرعمٍ خالصِ الثلجِ ،
أرجَعَني من هباءِ الغروبِ إلى شُرفةٍ في الشَّمال.
سأجتازُ هذي اللزوجةَ، في آخرِ الأمرِ،
أو أتركُ الذُّعْرَ في نَوْمِ مَنْ جرفوا وردةَ الجُلِّنارِ
إلى قبوِ تلكَ الليالي الطوال ..
يريدوننا خلفَ هذا الزمانِ،
وأنْ يدخلَ، الآنَ ، فينا الصليبُ
بلا هالةٍ أو قيامٍ ..
وقالوا : العشاءُ الأخيرُ على خشبِ الحربِ
فلتصعدوا للسلامِ ..
ولا تنزلوا عن مساميرِ رغبتِنا في الوئامِ ،
ومَنْ هبطوا قَبلَكم فَلَهُمْ قُبْلةٌ من يهوذا الذي
باعنا ما نريدُ ،
هو الواقعيُّ الحكيمُ الذي أدركَ الضَّعْفَ
في كفّة الاِحتكامِ ،
فلا تنزلوا عن سماواتِ صُلبانكم
أيها القومُ
كي لا تمرُّوا على دربِ آلامكم
من جديدٍ،
ولن تجدوا المجدلياتِ يَغْسلنَ أقدامَ أبنائِكِم ..
إنكم خيرُ مَنْ يعرفُ الريحَ
في روحِ هذي البلادِ
فإمّا لنا، سوف تبقى، وإمّا لنا ..
لا بياضَ على جَنْحِ هذا الغرابِ
ولا فحمةً في الجليد .