شفيق التلولي " بائعة الجبجب "

pen
حجم الخط

قصة قصيرة

شفيق التلولي
إذا كان مع عادل ثلاث ليرات وسعر الدفتر الذي يحتاج أن يشتريه أربع ليرات، فكم يحتاج عادل لشرائه؟
سأل مدرس الرياضيات التلاميذ، قامت في الفصل جلبة، وتسابق الأخير قبل الأول على الإجابة؛ إذ أن غالبيتهم استسهلوا السؤال، إلا عُمر الذي كان شارد الذهن يفكر في أقراص الجبجب وفي الخالة عزيزة التي تتربع على باب المدرسة وأمامها فرش الحاجيات التي يبتاعها التلاميذ أثناء ذهابهم وإيابهم، كان السؤال الأصعب على عُمر كيف سيشتري ستة أقراص من الجبجب بعد عودته من المدرسة؟ ليقتات منها إخوته الخمسة، بينما لا يملك إلا ثمن ثلاثة منها، كما أنه يخشى أن يكون قد نفذ الجبجب من فرش الخالة عزيزة، وهذا ما كان يهمه من حاجياتها المعروضة؛ إذ أن أقراص الجبجب تنفذ خلال ذهاب التلاميذ إلى المدرسة؛ ليتغذوا أثناء الفسحة، يشتهونه على الرغم من أنهم يكرهون طابور الحليب المصنوع منه والذي يُجبرون على شُربه صباحًا وقبل الدخول إلى الفصول، ربما يطيب لهم الحليب الذي يجفف بعد تعرضه لأشعة الشمس على أسطح المخيم القرميدية، ويستمتعون بحموضته حينما يصبح جبجباً.
تنهد عُمر:
- ربما لم أجده خلال إيابي، قال في قرارة نفسه، وهمس في سره، نعم سينفذ قبل عودتي؛ فاليوم لا يفتح مركز التغذية أبوابه أمام التلاميذ المعوزين فيذهب جُلهم إلى هناك؛ يأكلون البرغل مع اللبن والفاصولياء، وعبوات اللحم الأمريكية المطبوخة بعرق الهنود الحمر، وغيره مما تقدمه وكالة غوث اللاجئين.
قطع عليه مدرس الرياضيات وجومه متسائلا:
- لماذا لم ترفع يدك يا عُمر للإجابة على السؤال كما فعل التلاميذ؟
- لا إجابة لدي يا أستاذ.
- السؤال سهل يا عُمر.
- أعرف لكنه صعب جدا بالنسبة لي يا أستاذ.
وبما أن أساتذة الرياضيات يمتلكون من النباهة التي تكفي بديهتهم لالتقاط ما بين الأرقام؛ أدرك الأستاذ بأن حساب الأرقام التي يفكر بها عُمر تحتاج الي جمع وطرح وضرب وقسمة؛ مما يجعل حلها أصعب من سؤاله.
هز الأستاذ برأسه.
- حسنا يا عُمر، لا عليك يا بنيّ، ربما تجد الحلول المناسبة في جعبتك؛ فلكل مسألة حسابية معطيات وحلول فنتائج.
لم يطلق جرس المدرسة العنان لعُمر بالعودة إلى تفكيره بالجبجب بعدما قرع إيذانا بالمغادرة.
حمل حقيبته الثقيلة ومضى، حزن كثيرًا عندما وجد الخالة عزيزة تحزم أغراضها وتضع الفرش على رأسها، وتمضي في الطريق المؤدي إلى سوق المخيم؛ لتشتري بما جمعت من بيع قوت أولادها، كانت قد لمعت في عينيه فكرة استدانة الجبجب منها بعدما نبهه المدرس بأن لكل مسألة حل، لكن هذه الفكرة تبخرت بنفاذ الجبجب ومغادرة الخالة عزيزة.
منذ تلك اللحظة ألقى عُمر بحقيبته المدرسية المثقلة بالكتب والدفاتر ورائحة الجبجب التي تفوح منها، وبقع بقايا أطعمة مراكز التغذية التي تُفسد كتبه ودفاتره، حمل عربة الحلوى التي ورثها عن أبيه بعدما رحل عن الدنيا لاجئاً مشرداً في مخيم جباليا، تاركا مهنة النجارة وورشته هناك في بلدته يبنا.
كل هذا مر من أمام عينيّ عُمر الذي أصبح شاباً عفيا وهو يُقلّب هذه الذكريات هائماً على وجهه ووجع المدينة يكوي ضلوعه أثناء تجواله اليومي بعربة الحلوى التي يجرّها يوميا على طول الطريق الذي يتكبد عناءه ومشقته خلال ذهابه من المخيم إليها وإيابه منها، رحلة قاسية؛ قشبت شفتيه وزادها سجاير الرويال والمانشستر قشبا، ناهيك عن حكايا باعة السجائر والفستق التي كانت تملأ الدنيا ضجيجا وتأكل رأسه كلما ارتفع سعر السجائر الذي لم يعد بمقدور التجار تهريبها بعدما أطبق الحصار بأنيابه على المدينة.
دأب عُمر على تثقيف نفسه بنفسه ونهل من المعرفة ما يعوضه عن فقدان حياته المدرسية ومن ثم الجامعية، اشترك في مكتبة بلدية غزة ليستعير منها الكتب حتى زادت ثقافته واتسعت درايته، أثرى حصيلته المعرفية بالفلسفة والأدب والتاريخ والسياسة، قرأ العديد من الروايات العربية والعالمية، وأبحر في دروب الشعر وأحب قراءة الأساطير.
وذات تجوالٍ في حديقة الجندي المجهول بغزة التقى بأحد الكتاب وصديقه السياسي المتقاعد، وكانا يجلسان على أحد مقاعد الحديقة، ابتاعا منه بعض الحلوى، وأشعل كل منهما سيجارته في انتظار قهوتهما المعتادة بعد مشوارهما الرياضي الترويحي اليومي، أطرق أذنه يستمع لحديثهما عن الثقافة وهمومها.
- هل تأذنا لي بالتدخل؟
قاطعهما عُمر.
- تفضل.
- أنا عمر قرأت الكثير عن كل شيء وليس بعض الشيء عن كل شيء، حتى لا أظلم الثقافة وأختزلها في هذا القدر الذي يعرفونها به، لست مغامراً ثورياً كجيفارا الذي انحدر من عائلته الأرستقراطية مناضلا متنقلا بين الجبال، لكنني بائع الحلوى المتجول أباً وليس عن جد أو أبعد من ذلك، أبي الذي كان نجاراً يبناوياً أبًا عن جد ويصنع غرف النوم لأهل يافا واللد مات تاركا لي هذه العربة وحلمه بالعودة إلى يبنا ومنجرته، لم يعد ولم يتسن لي شراء أقراص الجبجب لإخوتي الصغار ذات مدرسة، والخالة عزيزة ماتت بعد عقد من زمان حادثة الجبجب، وما زلت أبحث عن إجابة على سؤال رياضيّ لم يفك علم الرياضة رموزه بعد.
ثم أردف قائلا:
- ليتني كنت جيفارا يا سيداي، ولم أكن بائع حلوى ابن هذا النجار الذي لم يستطع إلا صناعة هذه العربة المتجولة من بقايا منجرته، وعكاز ورثته عنه أمي التي أنهك النقرس مفاصلها، مع أنها ليست ملكة! ليتني جيفارا الذي لم يستهو الجبجب والثقافة، لكنني سأظل أقرأ كيف تسلق جيفارا الجبال بسيجارته الكوبية؛ لعلي أعتزل سجائر الرويال والمانشستر، ولف الدخان العربي الذي أعمى عيون المدينة عن الولوج إلى جبل الخلاص.
وختم عُمر:
- أكره تلك الراية الزرقاء التي تحمل كرة العالم الأرضية العالم الظالم الذي تحيط بخريطته سنبلتان، أكره ساريتها المنتصبة على منصة باحة المدرسة، ولعنات القرميد وأبواب الفصول الزرقاء، أكره لعنات اللجوء "الطُعمة" مركز التغذية وبطاقة التموين وطابور الحليب الصباحي، كما أكره حال مدينتنا المنقسمة والمتهالكة، أكره لجوء الأمس وغربة اليوم.
مضى الرفيقان وفي عينيهما حيرة وحزن ولوعة، أما عُمر فراح يدور في دوائر رحلة البحث عن الجبجب في كتب الجغرافيا والتاريخ، وعن السجائر الكوبية بين جبال جيفارا.
أيار غزة 2016م