قدم الإسرائيليون تفسيرين لدعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي لكل من إسرائيل والفلسطينيين للتوصل إلي حل حقيقي للقضية الفلسطينية, وللتجاوب الذي أبداه قادة الكيان الصهيوني مع هذه الدعوة. فقد اعتبروا أن الدعوة التي أطلقها الرئيس السيسي يوم الأربعاء الماضي(2016/5/18) من أسيوط بضرورة السعي إلي سلام حقيقي دافعها هو خشية مصر من انفجار غزة في اتجاه مصر أو إسرائيل في هذا التوقيت الصعب الذي من شأنه توتير الأوضاع بصورة كبيرة, وزج المنطقة في صراع كبير يسبب إحراجا لجميع القوي الإقليمية بما فيها مصر وإسرائيل, كما اعتبروا أن قبول قادة الكيان خاصة رئيس الحكومة بنيامين نيتانياهو وزعيم المعارضة رئيس كتلة ما يسمي المعسكر الصهيوني اسحاق هيرتسوج وتحمسهما للذهاب معا إلي مصر للقاء الرئيس السيسي للبحث في تفاصيل رؤيته يرجع إلي اعتبارهما المبادرة المصرية بديلا للمبادرة الفرنسية التي رفضها نيتانياهو رفضا مطلقا وأنها لم تلق الحماس الأمريكي المطلوب أيضا.
الاسرائيليون نجحوا, علي مدي السنوات الماضية لتوظيف خدعة وأكذوبة ما عرف بـ عملية السلام للمماطلة في المزيد من كسب الوقت لضم وتهويد كل ما يمكنهم ضمه وتهويده من أراضي الضفة الغربية, وهم يرفضون حتي الآن, علي عكس كل دول العالم ترسيم حدود واضحة ومحددة لما يسمونه دولة إسرائيل لأنهم يربطون بين الأمن والحدود, فكل أراض يرونها ضرورية لحماية أمن إسرائيل يسعون إلي ضمها, لذلك هم يرفضون مثلا التخلي عن أراضي ما يعرف بـ غور الأردن, وهي المنطقة الحدودية بين شمال الضفة الغربية والمملكة الأردنية لدواعي أمن دولة إسرائيل, ويسعون الآن لضم فعلي لما يعرف بـ المنطقة جـ المحددة في اتفاق أوسلو التي تبلغ مساحتها نحو60% من أراضي الضفة الغربية, وهم الآن يسعون لإعلان الضفة الغربية كلها جزءا من أرض إسرائيل تحت اسم يهودا والسامرة وجعل فلسطين كلها وطنا لشعب واحد أي الاستيلاء علي كل أرض فلسطين باعتبارها حقا مطلقا للشعب اليهودي وحده.
لو تأكد الإسرائيليون أن السلام الذي يعنيه ويريده الرئيس السيسي هو السلام العادل سيرفضونه فورا لأنه مفهوم يتعارض مع مفهوم السلام الإسرائيلي الذي يحقق كل أهداف إسرائيل في التوسع, ولو أنه تبني مفهوم المؤتمر الدولي وإعادة القضية الفلسطينية إلي مجلس الأمن سيقاطعه الإسرائيليون وسيرفضون دعوته كما رفضوا وأجهضوا المبادرة الفرنسية التي تبنت مفهوم العودة إلي عقد مؤتمر دولي لبحث السلام في الشرق الأوسط لإدراك فرنسا بفشل دور اللجنة الرباعية, وفشل عملية السلام التي رعتها واشنطن, والتي انتزعت البحث في القضية الفلسطينية من مجلس الأمن ووضعتها في يد إسرائيل وتحت الرعاية الأمريكية عندما تبنت مفهوم المفاوضات الثنائية الإسرائيلية ـ الفلسطينية.
من هنا يأتي الرهان الإسرائيلي علي ما يعتبرونه مبادرة سلام مصرية يرونها بديلة لـ المبادرة الفرنسية أو فرصة لإجهاض المبادرة الفرنسية. وهم عندما يتطلعون إلي تجديد الحماس لخيار المفاوضات الثنائية فإنهم يستهدفون تحقيق هدفين أولهما كسب المزيد من الوقت لاتخاذ كل الإجراءات القانونية لضم المنطقة جـ أولا من أراضي الضفة الغربية تمهيدا لضمها كلها, وثانيهما تنشيط عملية تطبيع العلاقات العربية ـ الإسرائيلية, أملا في انخراط دول عربية أخري, إلي جانب مصر, في عملية السلام الجديدة. وهم عندما يطمحون إلي ذلك فإنهم يحققون إستراتيجيتهم التي تعطي الأولوية للعلاقات مع الدول العربية وليس لحل القضية الفلسطينية.
هذا السلام الذي يريده الإسرائيليون يتوافق مع تطورين مهمين يحدثان الآن داخل إسرائيل أولهما سيطرة اليمين المتطرف علي السلطة داخل الدولة الإسرائيلية خاصة علي الأجهزة الأمنية والسيادية, وثانيهما وصول المجتمع والدولة في إسرائيل إلي أعلي مراحل العنصرية والعدوانية ضد كل ما هو عربي.
هناك معالم كثيرة تؤكد هذا التحول بعضها يخص الدولة وبعضها يخص المجتمع. من بين المعالم التي تخص الدولة يمكن إدراج صعود قيادات يمينية دينية علي رأس الأجهزة الأمنية بكل أنواعها. فبعد أن أصبح يوسي كوهين رئيسا للموساد بات من الممكن القول إن ثلاثة بين أربعة أجهزة أمنية إسرائيلية صارت تحت قيادة رجال متدينين يرتدون القبعة, أي القلنسوة اليهودية الشهيرة المعروفة باسم كيبا, هم إضافة إلي يوسي كوهين كل من يورام كوهين رئيس جهاز الأمن الداخلي( الشاباك) وروني ليغدو, المفتش العام للشرطة, ولم يبق غير الجنرال غادي ايرنكوت رئيس أركان الجيش, الذي قد يبادر بتقديم استقالته أو تتم إقالته علي ضوء المواجهة الراهنة بين قيادة الجيش ورئيس الحكومة وجوقة المتطرفين من الوزراء والحلفاء التي أدت مؤخرا إلي إقالة أو استقالة وزير الدفاع موشي يعلون, وترشيح أفيجدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا وزير الخارجية السابق خلفا له وهو تطور قد يعجل بالإطاحة برئيس الأركان. وجاء انضمام الزعيم الديني المتشدد ارييه درعي كوزير للداخلية ليكمل الشكل العام لأجهزة الأمن التي باتت تخضع لقيادة رجال ينتمون إلي التيار الديني المتشدد.
وصول هؤلاء القادة اليمينيين للمناصب العليا في الأجهزة الأمنية, أي بؤرة السلطة, يعكس تحولا مماثلا في أدوار النخبة الدينية علي حساب النخبة الديمقراطية أو المدنية من تياري اليسار والليبراليين التقليديين الذين كانت لهم الغلبة في إدارة الدولة الصهيونية في عقود سابقة. وهو تحول ينسجم مع تحولات موازية تحدث في المجتمع الإسرائيلي الذي يتجه إلي المزيد من التطرف والعنصرية لدرجة التوحد مع دعوة وأفكار التيارات الدينية المتطرفة ومقولاتها العنصرية ضد العرب وانحيازها المطلق لمشروع إقامة دولة دينية بديلة تعيد بناء مملكة اليهود وتعيد تأسيس الهيكل المزعوم, وتستبدل القانون المدني بفتاوي الحاخامات الذين لا يتورعون عن الإفتاء ليس فقط بسرقة العربي واغتصاب أرضه وأملاكه, وإنما أيضا بقتله حتي لو كان رضيعا باعتبار أن ذلك تقرب إلي الله. تلك هي إسرائيل التي يقودها نيتانياهو الذي يبدي حماسا للتحالف مع الدول العربية لمقاتلة ما يراه أعداء مشتركين: إيران والإرهاب, دون أي استعداد لأن يقود هذا التحالف إلي تمكين الشعب الفلسطيني من الحصول علي حقوقه المشروعة, بل إنه يوظف أكذوبة ما يسمي السلام لتحقيق المزيد من التوسع والسيطرة ولعل في الموقف الإسرائيلي من اتفاق أوسلو الموقع مع السلطة الفلسطينية منذ عام1993 أكبر دليل علي ذلك.
عن الارهام