دنتْ تلك المرأة من فتاة كانتْ تبكِي، وقالتْ لها، بينما كانتْ تناولها بورقةِ محارمٍ: أذرفي عبراتكِ هنا، لكنّ الفتاة لمْ تفهم ما قالته تلك المرأة، وتابعتْ البكاء، فاقتربتْ تلك المرأة منها مرّة أخرى، وقالتْ لها: عزيزتي لا تضيّعي دموعكِ.. حطّيها هنا.. في هذه الورقة.
فأتتْ والدةُ الفتاة ، وزجرتْ تلك المرأة العجوز، ثم رمتْ بورقِ المحارم في سحنتِها، فرفعته تلك المرأةُ بسرعة، بعدما أمّنتْ أنّ فيه دموع الفتاة، وأخذتْ تفتش، بعدما حظيتْ بالورقِ المبتلّ بدموعِ الفتاة، عن نائحةٍ أخرى، وراحتْ تبحثُ بإصرار، فمرّت على متوسّلة كانت تبكي، وأمعنتْ النّظر في دموعها، ثم غضّتْ الطّرف عنها وتابعتْ البحثَ، وولجتْ إلى داخل مكانٍ للتعبّد، فرأتْ امرأةً تقعد، وتخبئ دموعها، فجلستْ مقابلها، وناولتها ورق محارم جديدة، وقالتْ لها: أذرفي عبراتكِ هنا.
أخذتْ المرأةُ الورقَ، ونظرتْ فيه، ورطّبته بدموع بكائها، وقالتْ :الفتاة.. الفتاة التي أنفقتْ عليها كلّ ما أحوزُ زجرتني.. زجرتني بكلّ عنفٍ كيف تصلّب فؤادها عليّ؟
فوضعتْ تلك المرأةُ يدَها على كتفِ الباكية، وبدتْ محطاتةً لأنْ تخرج المرأةُ المخاطَ في ورقِ المحارم، فيمتزجُ مُخاطها بدمعِها ويخرّب كل شيء.
كانتْ تبحثُ بعزيمة عن دموع خصبة، تجمع دموعاً ذرفتها مُقل وأفئدة محطّمة، مُحترقة، مملوءة عن آخرها بالحزنِ، دموعٌ تتقاسمُ في إحداثها كلّ أعضاء الجسد، العيون، الأفئدة، التي كانتْ تمرّ في كلّ الأوردة، وانهمرت انهمارا عبر جفونِ العيون، وفاضت كطوفانٍ، لتجمعها أخيراً في ورقِ محارمها الكثيرة، التي امتلئ بها عُبّها، وطيات ملابسها. كانت تتفادى الجبّانات، فالدموع التي انسكبت هناك نشفت، بمجرّد ذهاب ذوي الميّتين للمقابر، دموعٌ في معظمها ليستْ حقيقية.
فكنزُها من ورقِ المحارم باتَ لا يُعدّ، هذه القطع المتجمّعة لسيّدات ثكالى، قُتل أولادهن في ميادين الحروب، وفي ميادين ثورات مستعرة، فبقيت دموعهن هنا شاهدة على أحزانهن.
لم تكنْ ترقد أبداً في غرفِ ورق المحارم، كلّما دخلتْ إلى بيتها ومعها محارم جديدة، كانتْ تشرعُ الباب بانتباهٍ وهدوء شديدين، كي لا تنسلّ هبّات الرّيح إلى الدّاخل، فتنشّفُ محارمها، وكانتْ تسدّ البابَ في هدوءٍ أشد، كيْ تصدّ أي ريحٍ من الحركة داخل بيتها، أو تهبّ بدموعِ محارمها،
هكذا مضىتْ المرأةُ تجمع الدّموع بأناةٍ، ولم تحسّ البتّة بأنّ عليها أنْ تقومَ بأيّةِ وظيفةٍ أُخرى في حياتها.