يروي الفلسطينيون ذكرياتهم عمّا حدث عام 1948. ومن خلال روايتهم يتبيَّن زيف الرواية الصهيونية، التي ادَّعت أن الفلسطينيين هاجروا طوعاً عام 1948، كما تتّضح تفاصيل مخطط التطهير العرقي، الذي هدف إلى اقتلاعهم من وطنهم، وتهجيرهم، من خلال بث الرعب، والخوف، والمحاصرة، والقصف، والحرق، والهدم، وارتكاب مجازر ضد الإنسانية.
ومن خلال التشبث بالحكاية، بحذافيرها، يدقّ الفلسطينيون جدران الذاكرة العالمية الجماعية، ويهزون الضمير العالمي الذي حاول وما زال يحاول أن يمحو تفاصيل الرواية الفلسطينية، ويؤكدون حتمية عودتهم اللامشروطة إلى بيوتهم.
*****
تؤكِّد "فايزة اليحيي" - المهجَّرة من قرية الطنطورة، وتقيم في عمان-الأردن-، أن أهل الطنطورة لم يفكروا إطلاقاً في الهجرة من قريتهم:
"ما بِقي لا رجل، ولا امرأة، ولا طفل، ولا أي أثر يدل على إنُّه كان فيه سكان في القرية".
ومن خلال وصفها لتفاصيل رحلة تهجيرها؛ يتبيَّن أن الخطة مبيَّتة لتطهير القرية عرقياً:
"الساعة ثنتين وجه الصبح، سمعنا صوت إطلاق رصاص، والدتي صارت تصحّينا: بسرعة يللاّ إلبسوا، خلينا نروح عند عمتكم، هي كانت كل ليلة لما تنزل في عندها شنطة حاطه فيها كل مصاغها، أنا كان عندي حصالة، كل ما ننزل أعبطها، أحتضنها، وفعلاً أنزل فيها، بهديك الليلة لا أنا مفكّره بالحصالة، ولا والدتي مفكره بالشنطة، فركضنا وإحنا في قمصان النوم، ونزلنا عند عمتي، وكانت هاي هي الطلعة اللي ما بترُحش من ذاكرتي أبداً، ما خطر في بالي إنه هادي هي الطلعة اللي ما رح تكون فيها رجعة.
طلَّعونا على الشط، وخلّونا نتكوَّم، وحوَّطونا جنود مسلحين، وطلعت أنا على الجهة الثانية، إتفَجأت بصف طويل من الرجال، كلهم طلبوا منهم إنه يكونوا جالسين إيدهم ورا راسهم، وموطّين روسهم على الشط مباشرة، وشُفت في الميّ كان فيه جثتين ضاربينهم بالرصاص، والمنظر مرعب. بعدين طلبوا منا نصطفّ، المجنَّدات عمّالهم بقشّطوا أي شي، صيغة، بِشيلوها من إيدين الستات. أنا كنت لابسة خاتم مهديني اياه والدي، فرحانة فيه. بحشت في الرمل وحطيته. لما أجا دوري إنبسطت إنه الخاتم بأمان.
الشباب اللي كانوا على الشط، أخدوهم كلهم طبعاً للسجن.
الساعة كانت أربعة بعد الظهر، إطلعنا على منطقة المراح، كان فيها تركّات، فوَّتونا، يللا إطلعوا، ركبنا بالتركّ، وبإتجاه الفريديس، جنب الطنطورة. الطنطورة مش من المناطق اللي تهجَّرت. والعائلات بالفريديس احتوت العائلات اللي طلعت. حمَّلونا بالسيارات، قالوا لنا: بدكم تطلعوا، إنتوا أهل الطنطورة، مش أهل الفريديس. طلَّعونا على طولكرم، فيها كان تبادل أسرى بين مجندات يهوديات 80 مجندة، كانوا الجيش الأردني ماسكهم.
طولكرم كانوا مضيافين جداً. فيه عائلات من الطنطورة، يمكن معدودين على عدد الأصابع الوحدة بقيوا في طولكرم. (إحنا طلعنا على نابلس). والدي ما طلع من نابلس إطلاقاً".
*****
تصف "فايزة اليحيي"، مشاهد القتل التي شهدتها، ثم تروي ما سمعته عن مذبحة الطنطورة: 22 أيار 1948، والتي راح ضحيتها 250 شاباً من القرية، لم يسلم منهم حتى من رفع راية بيضاء:
"بتذكَّر وإحنا مشينا من الشط باتجاه المراح، وأنا عمري 13 سنة، لقيت فيه الحجة "عِزه"، مقتوله ومرميِّه، إبنها جنبها، عرفت إنه أطلقوا رصاص على إبنها، وهي رمت حالها عليه لما شافته. دفشها في رجله، ما ردَّت، فأعطاها رصاصة، اتكوَّمت جنبه، وشفت الجثتين اللي في البحر، وسمعت طلقات رصاص! ماشفتش اللي انقتلوا، فيما بعد عرفت من دار "أبو صفية"، عائلة معروفة، 8 شباب، صفّوهم وأطلقوا الرصاص عليهم.
كل اللي كانوا يقاتلوا على حدود الطنطورة أُعدموا، وسمعت إنهم أجبروهم على أن يحفروا قبورهم بأنفسهم، وكانوا يقتلوهم، ويكوّموهم في القبور. مِسكوهم وهمّه عمالهم بِقولوا لهم إنه إحنا خلص بدنا نوقف قتال. قتلوا معظم شباب الطنطورة! كانت أكبر مذبحة صارت يمكن في تاريخ فلسطين، نسبةً لعدد اللي قتلوا، وللآليه اللي قتلوا فيها".
*****
تروي "فايزة اليحيي"، عن السبب الذي دفع والدها المحامي "محمد توفيق اليحيي" للتصميم على المقاومة، قبل عام 1948. ويتبيَّن من خلال رواية الوالد أن الدين لم يكن يوماً سوى ذريعة للمخطط الصهيوني للاستيلاء على فلسطين:
"كان متخصص بقضايا الأراضي، فمرَّة كانت بين إديه قضية، جارُه كان محامي يهودي، فداخل بدّه يستشيره لوالدي بشيء، في إيده ورقة، يا "أبو فوزي"، إطَّلع، لقي واحد رافع المسدس عليه، مسك إيده رأساً، قال: إذا بتقتله أنا بقتلك. وقتها والدي ما انتبهش للموقف، كله حصل في لحظات، فاتضح إنه هذا من الجنود اللي أجوا مجنَّدين من الخارج، حتى يساعدوا اليهود في الإستيلاء على الأرض، وقتها اليهودي صار يشجِّع والدي يقوله: أنا اليوم بالصدفة دخلت وأنقذت حياتك، بكره أنا يمكن مش موجود، وهدول مش إلهم البلد، إحنا عارفين إنه البلد إلنا، - بحكي بلغة الجمع-، إحنا، يهودي، مسيحي، مسلم، هذه بلدنا، فإنت بدون مُكابره بلاش اتدّاوم. بهديك اللحظة كانت العلامة الفارقة بالنسبة لوالدي، بطَّل يداوم في المكتب، صار باستمرار يفكر كيف بدهم يقاوموا؟ بدأوا يتدرّبوا على حمل السلاح بالليل.
قال مرَّه: أنا رح أغيب ثلاث أربع تيام وراجع، أنا رايح بمهمة، ما أعلن عنها، بس هو كان رايح يجيب فرقة من الجيش العراقي، كانوا صاروا واصلين على مناطق نابلس وطولكرم، لإنه هو عارف مسبقاً إنه الطنطورة الشباب عددهم محدود، والرجال بيعتقدوا إنه لازم يطلّعوا النسوان على منطقة أمان. والدي بعث سفينة من لبنان، مين بحب يطلع من الأطفال والنسوان، بس الرجال ممنوع يركبوا، الرجال بيضلوا في البلد، هو كان حابب إنها تتفرغ للقتال الحقيقي.
أهل القرية خافوا، قالت إمي: أنا ما رح أطلع! وإحنا قاعدين، فطلعت السفينة رجعت، وكل أهل القرية بقيوا موجودين.
*****
"لم يخطر في بالي يوم من الأيام إنه فيه أي إنسان على وجه الأرض له الحق في هذا الشاطئ أكثر مني، أو على الأقل يوازيني في هذا الحق. العودة لازم تكون للطنطورة".
ومن خلال التشبث بالحكاية، بحذافيرها، يدقّ الفلسطينيون جدران الذاكرة العالمية الجماعية، ويهزون الضمير العالمي الذي حاول وما زال يحاول أن يمحو تفاصيل الرواية الفلسطينية، ويؤكدون حتمية عودتهم اللامشروطة إلى بيوتهم.
*****
تؤكِّد "فايزة اليحيي" - المهجَّرة من قرية الطنطورة، وتقيم في عمان-الأردن-، أن أهل الطنطورة لم يفكروا إطلاقاً في الهجرة من قريتهم:
"ما بِقي لا رجل، ولا امرأة، ولا طفل، ولا أي أثر يدل على إنُّه كان فيه سكان في القرية".
ومن خلال وصفها لتفاصيل رحلة تهجيرها؛ يتبيَّن أن الخطة مبيَّتة لتطهير القرية عرقياً:
"الساعة ثنتين وجه الصبح، سمعنا صوت إطلاق رصاص، والدتي صارت تصحّينا: بسرعة يللاّ إلبسوا، خلينا نروح عند عمتكم، هي كانت كل ليلة لما تنزل في عندها شنطة حاطه فيها كل مصاغها، أنا كان عندي حصالة، كل ما ننزل أعبطها، أحتضنها، وفعلاً أنزل فيها، بهديك الليلة لا أنا مفكّره بالحصالة، ولا والدتي مفكره بالشنطة، فركضنا وإحنا في قمصان النوم، ونزلنا عند عمتي، وكانت هاي هي الطلعة اللي ما بترُحش من ذاكرتي أبداً، ما خطر في بالي إنه هادي هي الطلعة اللي ما رح تكون فيها رجعة.
طلَّعونا على الشط، وخلّونا نتكوَّم، وحوَّطونا جنود مسلحين، وطلعت أنا على الجهة الثانية، إتفَجأت بصف طويل من الرجال، كلهم طلبوا منهم إنه يكونوا جالسين إيدهم ورا راسهم، وموطّين روسهم على الشط مباشرة، وشُفت في الميّ كان فيه جثتين ضاربينهم بالرصاص، والمنظر مرعب. بعدين طلبوا منا نصطفّ، المجنَّدات عمّالهم بقشّطوا أي شي، صيغة، بِشيلوها من إيدين الستات. أنا كنت لابسة خاتم مهديني اياه والدي، فرحانة فيه. بحشت في الرمل وحطيته. لما أجا دوري إنبسطت إنه الخاتم بأمان.
الشباب اللي كانوا على الشط، أخدوهم كلهم طبعاً للسجن.
الساعة كانت أربعة بعد الظهر، إطلعنا على منطقة المراح، كان فيها تركّات، فوَّتونا، يللا إطلعوا، ركبنا بالتركّ، وبإتجاه الفريديس، جنب الطنطورة. الطنطورة مش من المناطق اللي تهجَّرت. والعائلات بالفريديس احتوت العائلات اللي طلعت. حمَّلونا بالسيارات، قالوا لنا: بدكم تطلعوا، إنتوا أهل الطنطورة، مش أهل الفريديس. طلَّعونا على طولكرم، فيها كان تبادل أسرى بين مجندات يهوديات 80 مجندة، كانوا الجيش الأردني ماسكهم.
طولكرم كانوا مضيافين جداً. فيه عائلات من الطنطورة، يمكن معدودين على عدد الأصابع الوحدة بقيوا في طولكرم. (إحنا طلعنا على نابلس). والدي ما طلع من نابلس إطلاقاً".
*****
تصف "فايزة اليحيي"، مشاهد القتل التي شهدتها، ثم تروي ما سمعته عن مذبحة الطنطورة: 22 أيار 1948، والتي راح ضحيتها 250 شاباً من القرية، لم يسلم منهم حتى من رفع راية بيضاء:
"بتذكَّر وإحنا مشينا من الشط باتجاه المراح، وأنا عمري 13 سنة، لقيت فيه الحجة "عِزه"، مقتوله ومرميِّه، إبنها جنبها، عرفت إنه أطلقوا رصاص على إبنها، وهي رمت حالها عليه لما شافته. دفشها في رجله، ما ردَّت، فأعطاها رصاصة، اتكوَّمت جنبه، وشفت الجثتين اللي في البحر، وسمعت طلقات رصاص! ماشفتش اللي انقتلوا، فيما بعد عرفت من دار "أبو صفية"، عائلة معروفة، 8 شباب، صفّوهم وأطلقوا الرصاص عليهم.
كل اللي كانوا يقاتلوا على حدود الطنطورة أُعدموا، وسمعت إنهم أجبروهم على أن يحفروا قبورهم بأنفسهم، وكانوا يقتلوهم، ويكوّموهم في القبور. مِسكوهم وهمّه عمالهم بِقولوا لهم إنه إحنا خلص بدنا نوقف قتال. قتلوا معظم شباب الطنطورة! كانت أكبر مذبحة صارت يمكن في تاريخ فلسطين، نسبةً لعدد اللي قتلوا، وللآليه اللي قتلوا فيها".
*****
تروي "فايزة اليحيي"، عن السبب الذي دفع والدها المحامي "محمد توفيق اليحيي" للتصميم على المقاومة، قبل عام 1948. ويتبيَّن من خلال رواية الوالد أن الدين لم يكن يوماً سوى ذريعة للمخطط الصهيوني للاستيلاء على فلسطين:
"كان متخصص بقضايا الأراضي، فمرَّة كانت بين إديه قضية، جارُه كان محامي يهودي، فداخل بدّه يستشيره لوالدي بشيء، في إيده ورقة، يا "أبو فوزي"، إطَّلع، لقي واحد رافع المسدس عليه، مسك إيده رأساً، قال: إذا بتقتله أنا بقتلك. وقتها والدي ما انتبهش للموقف، كله حصل في لحظات، فاتضح إنه هذا من الجنود اللي أجوا مجنَّدين من الخارج، حتى يساعدوا اليهود في الإستيلاء على الأرض، وقتها اليهودي صار يشجِّع والدي يقوله: أنا اليوم بالصدفة دخلت وأنقذت حياتك، بكره أنا يمكن مش موجود، وهدول مش إلهم البلد، إحنا عارفين إنه البلد إلنا، - بحكي بلغة الجمع-، إحنا، يهودي، مسيحي، مسلم، هذه بلدنا، فإنت بدون مُكابره بلاش اتدّاوم. بهديك اللحظة كانت العلامة الفارقة بالنسبة لوالدي، بطَّل يداوم في المكتب، صار باستمرار يفكر كيف بدهم يقاوموا؟ بدأوا يتدرّبوا على حمل السلاح بالليل.
قال مرَّه: أنا رح أغيب ثلاث أربع تيام وراجع، أنا رايح بمهمة، ما أعلن عنها، بس هو كان رايح يجيب فرقة من الجيش العراقي، كانوا صاروا واصلين على مناطق نابلس وطولكرم، لإنه هو عارف مسبقاً إنه الطنطورة الشباب عددهم محدود، والرجال بيعتقدوا إنه لازم يطلّعوا النسوان على منطقة أمان. والدي بعث سفينة من لبنان، مين بحب يطلع من الأطفال والنسوان، بس الرجال ممنوع يركبوا، الرجال بيضلوا في البلد، هو كان حابب إنها تتفرغ للقتال الحقيقي.
أهل القرية خافوا، قالت إمي: أنا ما رح أطلع! وإحنا قاعدين، فطلعت السفينة رجعت، وكل أهل القرية بقيوا موجودين.
*****
"لم يخطر في بالي يوم من الأيام إنه فيه أي إنسان على وجه الأرض له الحق في هذا الشاطئ أكثر مني، أو على الأقل يوازيني في هذا الحق. العودة لازم تكون للطنطورة".