احتفل الأردن الشقيق، في الأيام السابقة، بمناسبتين مهمتين: الذكرى المئوية على انطلاقة الثورة العربية الكبرى، ومرور سبعين عاماً على الاستقلال.
تاريخياً، قبل أن يغادر الشريف الحسين بن علي الحجاز مفجّراً ثورته ضد الأتراك في ربيع العام 1916، حتى ذلك الوقت، لم يكن في سجلات الدول المجاورة شيء اسمه المملكة الأردنية.. وهذا لا يعيب الأردن، ولا ينتقص من مكانته؛ ففي تلك الآونة كانت الخارطة السياسية للعالم في حالة تبدل وتغير، ولم تستقر نسبياً حتى انتهى النصف الأول من القرن العشرين، وها هي الآن تعيد جنونها وتموضعها مصحوبة بموجة دموية عنيفة.
وكما مهدت الثورة العربية لدور إقليمي للأردن ستظهر نتائجه لاحقاً، في تلك الحقبة أيضاً، وأثناء الحرب العالمية الأولى ظهرت الثورة البلشفية في روسيا، والتي ستحدد معالم النظام الدولي الجديد حتى نهايات القرن..
لكن الثورة العربية سيخيب أملها بوعود السير مكماهون بمنح الشريف حسين الاستقلال، إذْ كانت الدول الكبرى آنذاك مشغولة بوراثة الإمبراطورية التركية، وبرسم خرائط سايكس بيكو، ثم تهيئة الظروف لتنفيذ معاهدة سان ريمو، وتقسيم المنطقة العربية، وزرع الكيان الإسرائيلي.
لم يمض وقت طويل، حتى نشبت الحرب العالمية الثانية، والتي على هامشها، بل ومن أهم تداعياتها نشوء نظام دولي جديد برعاية دولية جديدة، جاء في سياقاته اختفاء دول بأكملها، وظهور دول جديدة، ففي أوروبا مثلاً اختفت بروسيا، وقُسِّمت ألمانيا، وظهرت تشيكوسلوفاكيا.
إذاً، ظهور الكيانات السياسية واختفاؤها مسألة سياسية تكررت مئات المرات عبر التاريخ الإنساني السياسي.. وما يعنينا هنا فهم السياق التاريخي الذي من خلاله استقل الأردن، وفهم الدور السياسي الذي سيلعبه خلال العقود السبعة التالية، والتي جاء أغلبها وأهمها في عهد الراحل الملك الحسين بن طلال.
بدأت الحكاية بإمارة شرق الأردن، والتي ستغدو بعد أقل من ثلاثة عقود الدولة الواعدة، التي ستتمتع بقوة الجغرافيا السياسية، وستلعب دوراً سياسياً أكبر بكثير من مساحتها الصغيرة.
نجح الملك الحسين في ترسيخ حكمه في الأردن، فيما أخفق ابن عمه فيصل في العراق، حيث شهد قصر الرحاب في حي الحارثية النهاية المفجعة للعائلة المالكة بعد ست سنوات من توليه العرش (وتكتسب هذه المقاربة أهميتها الآن، خاصة في العراق). ويعترف الحسين في كتابه «مهنتي كملك» أن تلك الحقبة كانت الأشد وطأة عليه، لكن الملك الشاب سيجتازها بحنكة غير عادية.
يبدو أن أحد الأدوار التي سيلعبها الأردن منذ بداياته المبكرة، استقباله اللاجئين، وامتصاصه نتائج الحروب الدائرة من حوله.
في البداية استقبل فلول الهاربين من جحيم الحرب العالمية الأولى، وبعد نكبة فلسطين، تدفق اللاجئون على العاصمة الجديدة، فشكلوا أغلب مادتها البشرية، في حين شكلت النكسة مدداً آخر، أكسبها إلى جانب ذلك أهمية سياسية إضافية، أما الهجرة الثالثة والتي أتت هذه المرة من الشرق بعد حرب الخليج الأولى فقد أجرت في شرايين اقتصادها الحياة. ولكن سيل اللاجئين لم ينقطع، لأن نيران الحروب ظلت مشتعلة.. يقيم في الأردن حالياً أكثر من مليوني لاجئ عراقي وسوري، أي أن الأردن تفوق على ألمانيا في هذا المجال.
وفي فترة صعود العمل الفدائي، لم يحتمل تقاسم السيادة مع الفلسطينيين، فوقعت التصادم المؤسف، والذي رغم مأساويته، لم يؤثر على العلاقة بين الشعبين.. لم يكن الأردن بلداً ثورياً، ولم تحمل قيادته الشعارات الكبيرة؛ لكنه ظل بلداً محورياً، آمناً، ينمو ويزدهر، في الوقت الذي تئن فيه دول الجوار تحت وطأة الصراعات والحروب الأهلية..
ومنذ أن اختار الملك المؤسس عمان عاصمة له؛ ومنذ ذلك الوقت، ارتبط تاريخ الأردن الحديث بعمّان، وصارت بقية المدن كما لو أنها على هامش الصورة، مدينة ساحرة، بدأت بسبعة جبال أنجبن سبعة أخرى، تشكل بمجموعها لوحة فسيفسائية مليئة بالمفارقات المثيرة والمدهشة، اعتبرها البعض مدينة طارئة مؤقتة، لكنها برهنت أنها الأكثر استقراراً ورسوخاً.
إذا نظرت لعمّان من علو، سترى منظراً يحبس الأنفاس بجماله الأخاذ: تضاريس الطبيعة، والبيوت المصفوفة بكل ترتيب وسكينة، وأضوائها المتلألئة.. وما يزيد من تألقها فللها الفخمة، وشوارعها النظيفة، بجسورها وأنفاقها وميادينها الفسيحة، وحدائقها الغناء، ومشهد الناس في قاع المدينة وهم ينتظمون في طوابير طويلة بانتظار المواصلات «سرفيس»، ولكن ما يفسد هذا الجمال هو ازدحام الطرق، ويوميات الناس بكل ما فيها من فقر وبطالة، وقصصٍ حزينة لا تظهرها الصورة.
تستطيع غيمة واحدة محشوة بالماء والصقيع أن تشل حركة المدينة أسبوعاً كاملاً، ولكنها تحولها إلى لوحة بيضاء فاتنة. في عمّان تتغير معادلات الزمان والمكان بطريقة دراماتيكية مثيرة، فعندما تنتقل من القويسمة إلى حي عبدون مثلاً فكأنك انتقلت إلى كوكب آخر، وعندما تغيب سنتين أو أكثر عن جبل كانت تنعق فيه الغربان، تعود وتجده قد تحول إلى شارع تجاري من الطراز الأول، تتناثر على جنباته اللافتات المضيئة ويزدحم بالمارة ورجال الأعمال. حيوية الشعب وإرادة الحياة في أقصى الظروف والبيوت المستقرة على قمم الجبال مفارقة أخرى.
عمان.. مدينة واعدة، لم تنضج كلياً، وحلم لم يكتمل بعد، والأردن بأكمله زهرة في طور التفتح، سيظل واحة الأمن، في صحراء العروبة في هذا الزمن الصعب.
تاريخياً، قبل أن يغادر الشريف الحسين بن علي الحجاز مفجّراً ثورته ضد الأتراك في ربيع العام 1916، حتى ذلك الوقت، لم يكن في سجلات الدول المجاورة شيء اسمه المملكة الأردنية.. وهذا لا يعيب الأردن، ولا ينتقص من مكانته؛ ففي تلك الآونة كانت الخارطة السياسية للعالم في حالة تبدل وتغير، ولم تستقر نسبياً حتى انتهى النصف الأول من القرن العشرين، وها هي الآن تعيد جنونها وتموضعها مصحوبة بموجة دموية عنيفة.
وكما مهدت الثورة العربية لدور إقليمي للأردن ستظهر نتائجه لاحقاً، في تلك الحقبة أيضاً، وأثناء الحرب العالمية الأولى ظهرت الثورة البلشفية في روسيا، والتي ستحدد معالم النظام الدولي الجديد حتى نهايات القرن..
لكن الثورة العربية سيخيب أملها بوعود السير مكماهون بمنح الشريف حسين الاستقلال، إذْ كانت الدول الكبرى آنذاك مشغولة بوراثة الإمبراطورية التركية، وبرسم خرائط سايكس بيكو، ثم تهيئة الظروف لتنفيذ معاهدة سان ريمو، وتقسيم المنطقة العربية، وزرع الكيان الإسرائيلي.
لم يمض وقت طويل، حتى نشبت الحرب العالمية الثانية، والتي على هامشها، بل ومن أهم تداعياتها نشوء نظام دولي جديد برعاية دولية جديدة، جاء في سياقاته اختفاء دول بأكملها، وظهور دول جديدة، ففي أوروبا مثلاً اختفت بروسيا، وقُسِّمت ألمانيا، وظهرت تشيكوسلوفاكيا.
إذاً، ظهور الكيانات السياسية واختفاؤها مسألة سياسية تكررت مئات المرات عبر التاريخ الإنساني السياسي.. وما يعنينا هنا فهم السياق التاريخي الذي من خلاله استقل الأردن، وفهم الدور السياسي الذي سيلعبه خلال العقود السبعة التالية، والتي جاء أغلبها وأهمها في عهد الراحل الملك الحسين بن طلال.
بدأت الحكاية بإمارة شرق الأردن، والتي ستغدو بعد أقل من ثلاثة عقود الدولة الواعدة، التي ستتمتع بقوة الجغرافيا السياسية، وستلعب دوراً سياسياً أكبر بكثير من مساحتها الصغيرة.
نجح الملك الحسين في ترسيخ حكمه في الأردن، فيما أخفق ابن عمه فيصل في العراق، حيث شهد قصر الرحاب في حي الحارثية النهاية المفجعة للعائلة المالكة بعد ست سنوات من توليه العرش (وتكتسب هذه المقاربة أهميتها الآن، خاصة في العراق). ويعترف الحسين في كتابه «مهنتي كملك» أن تلك الحقبة كانت الأشد وطأة عليه، لكن الملك الشاب سيجتازها بحنكة غير عادية.
يبدو أن أحد الأدوار التي سيلعبها الأردن منذ بداياته المبكرة، استقباله اللاجئين، وامتصاصه نتائج الحروب الدائرة من حوله.
في البداية استقبل فلول الهاربين من جحيم الحرب العالمية الأولى، وبعد نكبة فلسطين، تدفق اللاجئون على العاصمة الجديدة، فشكلوا أغلب مادتها البشرية، في حين شكلت النكسة مدداً آخر، أكسبها إلى جانب ذلك أهمية سياسية إضافية، أما الهجرة الثالثة والتي أتت هذه المرة من الشرق بعد حرب الخليج الأولى فقد أجرت في شرايين اقتصادها الحياة. ولكن سيل اللاجئين لم ينقطع، لأن نيران الحروب ظلت مشتعلة.. يقيم في الأردن حالياً أكثر من مليوني لاجئ عراقي وسوري، أي أن الأردن تفوق على ألمانيا في هذا المجال.
وفي فترة صعود العمل الفدائي، لم يحتمل تقاسم السيادة مع الفلسطينيين، فوقعت التصادم المؤسف، والذي رغم مأساويته، لم يؤثر على العلاقة بين الشعبين.. لم يكن الأردن بلداً ثورياً، ولم تحمل قيادته الشعارات الكبيرة؛ لكنه ظل بلداً محورياً، آمناً، ينمو ويزدهر، في الوقت الذي تئن فيه دول الجوار تحت وطأة الصراعات والحروب الأهلية..
ومنذ أن اختار الملك المؤسس عمان عاصمة له؛ ومنذ ذلك الوقت، ارتبط تاريخ الأردن الحديث بعمّان، وصارت بقية المدن كما لو أنها على هامش الصورة، مدينة ساحرة، بدأت بسبعة جبال أنجبن سبعة أخرى، تشكل بمجموعها لوحة فسيفسائية مليئة بالمفارقات المثيرة والمدهشة، اعتبرها البعض مدينة طارئة مؤقتة، لكنها برهنت أنها الأكثر استقراراً ورسوخاً.
إذا نظرت لعمّان من علو، سترى منظراً يحبس الأنفاس بجماله الأخاذ: تضاريس الطبيعة، والبيوت المصفوفة بكل ترتيب وسكينة، وأضوائها المتلألئة.. وما يزيد من تألقها فللها الفخمة، وشوارعها النظيفة، بجسورها وأنفاقها وميادينها الفسيحة، وحدائقها الغناء، ومشهد الناس في قاع المدينة وهم ينتظمون في طوابير طويلة بانتظار المواصلات «سرفيس»، ولكن ما يفسد هذا الجمال هو ازدحام الطرق، ويوميات الناس بكل ما فيها من فقر وبطالة، وقصصٍ حزينة لا تظهرها الصورة.
تستطيع غيمة واحدة محشوة بالماء والصقيع أن تشل حركة المدينة أسبوعاً كاملاً، ولكنها تحولها إلى لوحة بيضاء فاتنة. في عمّان تتغير معادلات الزمان والمكان بطريقة دراماتيكية مثيرة، فعندما تنتقل من القويسمة إلى حي عبدون مثلاً فكأنك انتقلت إلى كوكب آخر، وعندما تغيب سنتين أو أكثر عن جبل كانت تنعق فيه الغربان، تعود وتجده قد تحول إلى شارع تجاري من الطراز الأول، تتناثر على جنباته اللافتات المضيئة ويزدحم بالمارة ورجال الأعمال. حيوية الشعب وإرادة الحياة في أقصى الظروف والبيوت المستقرة على قمم الجبال مفارقة أخرى.
عمان.. مدينة واعدة، لم تنضج كلياً، وحلم لم يكتمل بعد، والأردن بأكمله زهرة في طور التفتح، سيظل واحة الأمن، في صحراء العروبة في هذا الزمن الصعب.