لم أشأ أن ألتفت أو أكتب عما أثير عن التحقيق الذي نشرته جريدة الاخبار اللبنانية عن التحرش والذي لازال يتفاعل حتى وقت متأخر من مساء الليلة، ليس فقط لأن الموضوع لا يستحق أمام كومة المآسي في قطاع غزة والذي يبدو أن ما ورد في تقرير الصحفي أمجد ياغي أقلها على الاطلاق، بل لأن هذه الظاهرة موجودة في كل المجتمعات وفي كل القطاعات بل حتى أكثرها احتراماً وقدسية ولكنها ربما الأقل في فلسطين، بل لأن الأرقام التي أوردها تحقيق الصحفي المذكور حول سبعة متحرشين من العاملين في حقل الصحافة أو المحاماة قد لا يشكلون نسبة 1% بالتالي تلك النسبة لا ترقى إلى أن تسمى ظاهرة.
لكن التحقيق الذي أعده الصحفي ذهب باتجاه تهويل الأحداث الفردية إلى حد كبير بمبالغة ليست في محلها وإن كانت وظيفة الصحافة هي ملاحقة كل مواطن الخلل في المجتمعات فما قام به المحقق الصحفي هو دوره الطبيعي الذي يستحق الاحترام والحماية من الصحفيين هكذا فعل نائب نقيب الصحافيين الصديق تحسين الأسطل الذي وقف خلف الصحفي أمجد ياغي مسجلاً للنقابة موقفاً يستحق التقدير.
ما جاء في التحقيق هو عبارة عن حواديث معروفة يتناقلها الوسط الصحفي همسا عن البعض في وسط الصحافة، وما فعله معد التحقيق هو أنه قام بتتبع الأحداث مؤكداً أو نافياً هذا هو ما يقوم به أي صحفي لكن الخطأ الذي وقع به هو ما جاء في بداية التحقيق من اشارة الى مؤسسة دولية كالأونروا بالاسم جعل أحد موظفيها وزميلاً كبيراً فيها محل التباس بالرغم من تأكيد المشرفين على التقرير أن الشخص المعني في التحقيق هو شخص آخر يعمل في نفس المؤسسة هذا الالتباس الذي لم يحدده التقرير بل أن اشارته كانت أقرب للتشهير وفي غير مكانها.
من يعتقد أن الجسم الصحفي خال من الأمراض المزمنة في القطاعات الأخرى فهو مخطيء لأنه جزء من هذا المجتمع بايجابياته وسلبياته تماماً هو عينة عشوائية حقيقية تمثل هذا المجتمع ولكن التهويل الذي ورد في التحقيق يعطي انطباعات خاطئة بأن الوسط الصحفي هو اكثر الأوساط سوء وهذا ما كان يستدعي التدقيق.
كما أنني ضد التهويل في تصوير الرذائل الفردية كظاهرة عامة فإننا أيضا ضد التهويل في الرد الذي ذهب بعيدا حد تصوير أن هناك مؤامرة استخباراتية تقف خلفها جهات معادية كبيرة وما شابه مما اعتدنا عليه من شعارات تستهدف غزة ومقاومتها ، فما علاقة المقاومة بمالك مؤسسة إعلامية يعتقد أن أمواله أو مؤسسته تستطيع الإطاحة بالصحفيات الحديثات مستغلا حالة الفقر وانعدام فرص العمل والوعي المتنامي لاقتحام المرأة سوق العمل؟
القصة لم تكن بحاجة إلى كل هذا الصدى الذي أثير لكنها جاءت وسط حالة كساد إخبارية في غزة لتجعل من موضوع عادي أم المواضيع فقد عقدت بالأمس مؤسسة فلسطينيات جلسة حوار ومواجهة بين صحافيين وصحافيات وبين معد التحقيق ومحاميه.. هاتفني أحد الأصدقاء إن كنت سأحضر لكن تزامن الجلسة مع موعد في تلفزيون هنا القدس ولقاء مع الصحافي القدير محمد الاشقر حال دون ذلك ،ولأن الموضوع لا يستحق كل هذه الجلبة المثارة ولو أن التحقيق لم يخطئ في التباس الأونروا التي كانت أقرب للتشهير منها للتقرير لكان الصدى إيجابي إلى أبعد الحدود.
لدينا جيل من الصحافيين الجدد يستحقون الدعم بدأوا يدخلون المهنة بنجاحات تحصد جوائز دولية يستحقون منا كل الدعم والتشجيع وأخشى أن الحملة المضادة للتحقيق يمكن أن تؤثر على هؤلاء الصحافيين وتعرقل اندفاعاتهم المهنية الهامة فقد خلت الصحافة الفلسطينية خلال العقود الماضية من صحافة الاستقصاء التي تلعب الدور الأبرز في العالم في الرقابة وملاحقة الفساد والإطاحة بالفاسدين ها هي تبدأ عندنا على يد شبان من الخطأ الاعتقاد أنهم بحاجة إلى تجربة عقد أو أكثر حتى يبدأوا تحقيقاتهم فقد بدأ أشهر الصحافيين العرب محمد حسنين هيكل التحقيق وهو ابن 22 عاما مثله كثيرين في الصحافة العربية والأجنبية وحتى المحلية قبل أن يصبح رئيسا للتحرير وهو في منتصف العشرينات .
هناك ظواهر أكثر خطورة تستحق التقصي حولها فغزة تخفي كثير من الظواهر الأشد إيلاما وإليكم مثالين من ورشة مغلقة شاركت بها الأسبوع الماضي حضرها النائب العام بغزة وقاضي المحكمة الشرعية أقامتها الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان حول ظاهرة الانتحار.
الأول: ما قاله النائب العام حول تحقيقات في جريمة قتل معينة أن الجريمة حدثت لأن مرتكبها مدمن على عقار الترامادول أراد أن يسرق ليؤمن جريمة فارتكب الجريمة تلك ظاهرة تستحق التقصي والتحقق حتى يتم وضع علاج لها أمام كثير من المدمنين .. القتلة المفترضين.
الثاني ما قاله قاضي المحكمة بأن هناك أزواج يوافقون أن تذهب زوجاتهم للرذيلة لتأمين المال فهناك أسر تنتحر جماعيا لأن الزوج يعجز عن تأمين مقومات العيش.
هذا موجود في غزة وربما هناك ظواهر أعظم ومن يصور غزة على أنها مجتمع الفضيلة وتختلف عن المجتمعات فهو مخطئ ولو بدأت الصحافة تتحدث عن الموضوع فذلك لا يعني أن جهات استخبارية خلفها ففي هذا وأد لأهم دور للصحافة والذي يتوجب علينا أن ندعمه لحماية المجتمع لا أن نستل سيوفنا ضده حتى وإن ارتكب خطأ ما علينا تصويبه.
في عشرينات القرن الماضي في فلسطين من يعمل بالصحافة كان منبوذ اجتماعيا بل وكان الأهل يخجلون من مهنة ابنهم تحت مبرر أنه يغتاب الناس لأنها كانت اّنذاك مهنة التفتيش والحديث عن الناس خصوصا أن هؤلاء الناس من البشوات والعائلات المالكة ، أخشى أننا لا زلنا نقف عند هذا الحد حين يتعلق الامر بنا نعود للعشرينات، سندعم أي صحافي يقوم بدوره في ملاحقة أمراض المجتمع والسلطة واحتكار رؤوس الاموال والابتزاز ولكن على الصحافيين التمييز بين التحقيق والتشهير بين الإصلاح والتدمير بعيدا عن الإساءة لأحد أو إعطاء إيماءات تجعل ممن ليس لهم علاقة بالأمر ضحايا ومشتبهين.
الأسوا هو الخشية من تداعيات التقرير بما يمكن أن يضعه من حاجز أمام اندماج صحافيات جدد بالمهنة نتاج التركيز على تلك الاحداث في الوسط الصحفي وتصويره بهذا الشكل ، تلك مدعاة للخوف وأقول لكل الزميلات بأن الاغلبية في هذا الوسط أيضا هم من افضل من أنتج الشعب الفلسطيني ونتاج معرفة عن قرب لجميع الزملاء الذين أعتز بهم، ولزملاء المهنة من الجيل الجديد كل الدعم والاسناد لكم ولكن كونوا أكثر حذرا حتى لا تظلموا أحد بالخطأ.