كثيرٌ منَّا يتمنى أنْ يخوض تجربة الاغتراب، أنْ يحيا بعيدًا عن وطنه أولاً، وأسرته ثانيًا، ولسان حاله عندما يسرد أسبابه "في السفر سبع فوائد"، واعترف أني من هؤلاء الذي تمنوا العيش بعيدًا، لأسباب عديدة جميعها لا يمت بصلة لفكرة أنَّ للسفر سبع فوائد، لكني جلست مع نفسي في لحظة هدوء، وبدأت أقص عليها الرواية، رواية الغربة، ما الشكل الذي ستصبح عليه حياتي وما الفائدة الكُبرى التي سأجنيها من وراء الاغتراب.
الحكاية ستبدأ، مع أول يوم سفر، أمكث وحيدة في غرفة فندق مُثقلة بأفكار كثيرة حول افتقادي لأسرتي، والتعب الذي أشعر به من جراء السفر، والخوف من السير في المدينة الكبيرة التي لا أعلم عنها شيئًا، وكيف سأتدبر حالي من البحث عن مسكنٍ مُناسب، إلى تَحمل مسئوليتي كاملة، وبعد كل هذه الأسئلة أجدني مُلقاة على سريري نائمة مع أهل الكهف.
وبعد أن أتمكن من إيجاد المسكن الملائم – نوعًا ما – تبدأ دورة الحياة اليومية، أو إنْ صح القول "دورة تحمل المسئولية"، المسئولية التي كنت ألقيها على عاتق والدتي، فيجب عليَّ أن "أنعى هم نفسي"، فأنا من سأطعمها، وأقوم بكل الواجبات الأخرى من كّيٍ للملابس بعد غسيلها – طبعًا – ودفع الفواتير المُستحقة من كهرباء ومياه، وإيجار الشقة، والتسوق وإحضار ما يلزم البيت، وما يلزم احتياجاتي الخاصة، والهم الأكبر الاستيقاظ مُبكرًا؛ من أجلِ العمل أو الدراسة، أمور عدة لم أكن أتخيل ولو للحظة أني سأعاني منها، أو أقوم بها.
وبعد فترة من العذاب النفسي والجسماني، تظل تردد بينك وبين نفسك يا الله ألهذا الحد والدتي كانت تحمل عني أشياء قد تبدو أنها بسيطة لكنها مع تكرارها، لتصبح روتينًا يوميًا لم تعد بسيطة أبدًا – بل كبيسة وكبيسة جدا – فتقول نعم أريدك يا أمي، أريد حياتي الأولى لا تلك التي أردتها وبشدة، فخسرت معها كل ما هو جميل لكني لم أتنبه وقتها لمدى جماله وروعته.
الأمنيات دائمًا ما تتعلق بفكرة أنها التنفيس الأول والرئيس عن همومنا، وما نتكبده من مشقة الحياة – لكن – أمنية الاغتراب تحديدًا لن تكون صائبة أبدًا إذا ما كان هدفك منها التخلص فقط من حياتك الشقية العابسة في بلدك، والمثل الذي يقول "الغربة كُربة" سيتأكد لا محالة وأنت تعيش وحيدًا بعيدًا عن أهلك، حتى لو جلست في سكن مأهول بغيرك، فالنفس الذي يخرج من أى فرد من أسرتك وأنت معهم بالدنيا وما فيها، وجدتني بعد كل هذه "الهمسات" أو لنقل "الشخبطة النفسية"، أتيقن من أنَّ أى أمنية أريدها لن تتحقق ويكون لها معنى، إلا إذا تشاركتها مع وطني الأصغر أسرتي، وساهمت بها في عملٍ ينفع وطني الأكبر "مصر"، عودوا أنفسكم على تحقيق أمنياتكم هنا، فمن هنا فقط يبدأ الحلم.