قبل سنوات قليلة، قامت بلدية البيرة بتأهيل شارع القدس؛ فأعادت تعبيده، وتبليط أرصفته وتسييجها، وتخصيص حدائق صغيرة على جنباته، زرعتها بأنواع مختلفة من نباتات الزينة والأزهار، وأشجار النخيل والزيتون الرومي، فبدا الشارع بأبهى حلة وأجمل تصميم، وصار المواطن يحتار أين يقف ليلتقط لنفسه صورة.. يومان فقط، ثم بدأ الشارع يفقد رونقه، ويتحول تدريجيا إلى مزبلة.. الباعة الجائلون حولوا الحدائق إلى مخازن لبضائعهم ومخلفاتها، المشاة واصلوا إلقاء الأوراق والعلب الفارغة فوق الأزهار، أصحاب المحلات احتلوا الأرصفة..
يتكرر ذات المشهد في أماكن وشوارع أخرى، في مختلف المدن والقرى الفلسطينية؛ تقوم البلدية بزراعة الأشجار، فتأتي الأغنام وتلتهمها، أو تخصص حديقة للعائلات، فتتحول إلى مكب نفايات، أو تضع إشارة ضوئية عند مفترق طرق، فتأتي مظاهرة غاضبة وتحطمها... هل المشكلة في المواطن (اللامنتمي)، أم في القواينن القاصرة، أم في البلديات التي لا تقوم بواجبها على أكمل وجه؟! الموضوع جدلي؛ فهناك علاقة تبادلية بين النظام والسلوك؛ النظام والقانون يضبطان سلوك المواطن، وسلوك المواطن يعزز النظام ويعطيه المصداقية، فمثلا، قد يهتم أحدهم بالنظافة، فيحرص ألا يلقي منديله على الأرض، لكنه يجول الشارع من أوله إلى آخره ولا يجد سلة مهملات!! في المقابل سيجد المواطن نفسه يسلك سلوكا حضاريا، عندما يسير في الشارع فيجده نظيفا، ومرتبا، وفيه سلال المهملات حسب الأصول.
قبل الحديث عن سلوك المواطنين، لنتحدث بصراحة عن البلديات؛ تعبّد شارعاً ما، وصبيحة اليوم التالي تحفره لطمر أنابيب المياه، أو الاتصالات!! وإذا لم تحفره، ستظهر عيوب الطريق خلال فترة وجيزة، إذ يمتلئ بالحفر، وتهترئ حوافه، لأنه بلا رصيف! وإذا زرعت صفا من الأشجار، سرعان ما تذبل، وإذا صممت حديقة، أو جزيرة وسطية، فتنفذها بأسوأ طريقة، دون اهتمام بالتفاصيل الفنية، ولا مراعاة لمتطلبات الذوق الجمالي، وتتركها دون متابعة.. فتضيع الأموال والجهود هباء منثورا، ثم يعتاد الناس على تلك المناظر المقرفة..
بالنسبة للمواطنين؛ من المألوف مثلا مشاهدة سيارة أحدث طراز يُهيأ لك أن صاحبها محترم؛ فإذا به يلقي من نافذتها كومة أوراق، أو ترى سيدة أنيقة يرمي طفلها عبوة كولا ولا تستنكر فعلته، أو تشاهد الأولاد في طريقهم للمدرسة وهم يقصفون أغصان الشجيرات، أو يرمون دفاترهم وكتبهم في الشارع احتفالا بانتهاء العام الدراسي، أو تشاهد مدخل شركة كبيرة بأجمل صورة: نوافير غناء، وأزهار مرتبة، وتصاميم جميلة.. ولكن من المستحيل أن تتبرع تلك الشركة بتصميم مماثل في مكان عام!! أو تجد البيوت من داخلها نظيفة، لكن بعد البوابة بمترين كومة نفايات، ومن شبه المستحيل أن يفكر أحد بتنظيف رصيف عام، حتى لو كان أمام منزله!!
لا أحبذ عمل مقارنة مع المدن الأوروبية لأن الموضوع مخجل ومحبط.. ولكن السؤال المؤلم: لماذا مجتمعاتنا على هذا النحو من الفوضى واللامبالاة!؟ .المفكر «هشام شرابي» قدم أجوبة عديدة عن هذا الموضوع؛ وأوعز السبب لأنماط التربية السائدة في المجتمعات العربية، والتي ينتج عنها ما أسماها «الأسرة البطريركية»؛ وهي الأسرة التي تتسم بتماسكها الشكلي، إلا أن من نتائج أنماطها التربوية أن الطفل ينمو فيها وشعوره بأن مسؤليته الأساسية هي تجاه نفسه أو عائلته فقط، لا تجاه المجتمع، فهذا الأسلوب التربوي يولد شروطا نفسية واجتماعية لا تبقي سوى مجالا صغيرا للشعور بالواجب تجاه المجتمع الأكبر، الذي يتصوره الفرد كفكرة مجردة، لا ينطبق عليها مفهوم المسؤولية بصورة طبيعية، وإذا تصادف وجود مطالب عائلية متناقضة مع مطالب المجتمع، فمن الأسهل على الفرد أن يعطي الأولوية للقيام بواجبه تجاه العائلة على حساب المجتمع.
والفرد المرتبط عائليا بهذا الشكل، لن يمثل المجتمع له سوى عالم الصراع و»الفهلوة»، الذي ينتزع فيه الفرد مكانته بالقوة، وإذا انخرط في الحياة الاجتماعية، فلتأمين مصالحه الخاصة فقط، ومن هنا تتعزز الأنانية، وتصبح مصلحة الفرد أهم من المجتمع، وتغدو مشاعر الآخرين أمرا ثانويا، لا يعيرها أي اهتمام، إلا إذا ارتبطت بمصالحه ومشاعره.
ثم تتطور علاقة مشوهة بين الفرد (السلبي) وبين القانون، فمع أن معظم الدول العربية تتغنى بالقانون، إلا أن الأمر لا يعدو عن كونه مجرد أغنية في فضاء الشعار والتمني؛ فتلك الدول عادة ما تصدر قراراتها منطلقة من أرضيات غير ديمقراطية، وتمثل مصالح الطبقة الحاكمة، فلا يجد الناس في تلك القرارات صدى لهمومهم أو حلا لمشاكلهم، ومن المتوقع في ظرف كهذا أن يعزف الناس عن المشاركة في تنفيذ تلك القرارات، لعدم شعورهم بأي جدوى من المشاركة، وتزداد القطيعة ما بين المواطنين وحكوماتهم وبالتالي القوانين التي تمثلها، فلا يعود بالإمكان التمييز بين ما هو قانوني وفي خدمة الصالح العام، وبين ما هو آني ويعبر عن مصالح لفئات معينة، أو نتيجة وجود فساد في مؤسسات الحكم، ومع اتساع الهوة تزداد سلبية الناس وانكماشهم على ذواتهم، ويصبح الشأن العام لا يعنيهم إلا بقدر ما يمس حياتهم اليومية، ويصبح القانون غير ملزم لهم إلا بمقدار ما يخدمهم، وفي هذا المناخ تسود أساليب التورية والتمويه والالتفاف والتنصل من المسؤوليات والتهرب من المشاركة العامة، وتسود قيم الفردية والإنانية والسلبية.
ويعطي د.»شرابي» نماذج إضافية من الأنماط التربوية الشائعة في الأسرة والمدرسة؛ حيث يتعرض الطفل للاستهزاء والتوبيخ والصراخ أكثر مما يختبر التفكير والحب والرعاية، بحيث يسيطر عليه مفهوم العقاب والعادات التقليدية، أكثر مما يسيطر عليه مفهوم الضمير والقيم الداخلية، فيصبح المحرَّم عنده هو ما يراه الآخرون، لا ما يؤمن به، وبالتالي لا مشكلة لديه إن مارس ما هو محرَّم إذا ضَمِنَ أن لا يراه الآخرين، وبالتالي سنجد أن شعوره بالذنب يبقى متخلفا، وحل محله الشعور بالخجل أو الخوف من الآخرين، وكذلك فإن دافعه للقيام بالواجبات ليس قناعاته الذاتية بقدر ما هي محاولة لكسب رضى الآخرين وإعجابهم، أي بدافع الرياء والنفاق.
نحتاج لثورة ثقافية، وإعادة تصحيح المفاهيم، ولن نصبح مجتمعا محترما إلا إذا صرنا نحزن لموت شجرة، ونتأثر بذبول زهرة، ونحافظ على نظافة شوارعنا كما نحافظ على نظافة بيوتنا.. عندما نخلص في أعمالنا.
يتكرر ذات المشهد في أماكن وشوارع أخرى، في مختلف المدن والقرى الفلسطينية؛ تقوم البلدية بزراعة الأشجار، فتأتي الأغنام وتلتهمها، أو تخصص حديقة للعائلات، فتتحول إلى مكب نفايات، أو تضع إشارة ضوئية عند مفترق طرق، فتأتي مظاهرة غاضبة وتحطمها... هل المشكلة في المواطن (اللامنتمي)، أم في القواينن القاصرة، أم في البلديات التي لا تقوم بواجبها على أكمل وجه؟! الموضوع جدلي؛ فهناك علاقة تبادلية بين النظام والسلوك؛ النظام والقانون يضبطان سلوك المواطن، وسلوك المواطن يعزز النظام ويعطيه المصداقية، فمثلا، قد يهتم أحدهم بالنظافة، فيحرص ألا يلقي منديله على الأرض، لكنه يجول الشارع من أوله إلى آخره ولا يجد سلة مهملات!! في المقابل سيجد المواطن نفسه يسلك سلوكا حضاريا، عندما يسير في الشارع فيجده نظيفا، ومرتبا، وفيه سلال المهملات حسب الأصول.
قبل الحديث عن سلوك المواطنين، لنتحدث بصراحة عن البلديات؛ تعبّد شارعاً ما، وصبيحة اليوم التالي تحفره لطمر أنابيب المياه، أو الاتصالات!! وإذا لم تحفره، ستظهر عيوب الطريق خلال فترة وجيزة، إذ يمتلئ بالحفر، وتهترئ حوافه، لأنه بلا رصيف! وإذا زرعت صفا من الأشجار، سرعان ما تذبل، وإذا صممت حديقة، أو جزيرة وسطية، فتنفذها بأسوأ طريقة، دون اهتمام بالتفاصيل الفنية، ولا مراعاة لمتطلبات الذوق الجمالي، وتتركها دون متابعة.. فتضيع الأموال والجهود هباء منثورا، ثم يعتاد الناس على تلك المناظر المقرفة..
بالنسبة للمواطنين؛ من المألوف مثلا مشاهدة سيارة أحدث طراز يُهيأ لك أن صاحبها محترم؛ فإذا به يلقي من نافذتها كومة أوراق، أو ترى سيدة أنيقة يرمي طفلها عبوة كولا ولا تستنكر فعلته، أو تشاهد الأولاد في طريقهم للمدرسة وهم يقصفون أغصان الشجيرات، أو يرمون دفاترهم وكتبهم في الشارع احتفالا بانتهاء العام الدراسي، أو تشاهد مدخل شركة كبيرة بأجمل صورة: نوافير غناء، وأزهار مرتبة، وتصاميم جميلة.. ولكن من المستحيل أن تتبرع تلك الشركة بتصميم مماثل في مكان عام!! أو تجد البيوت من داخلها نظيفة، لكن بعد البوابة بمترين كومة نفايات، ومن شبه المستحيل أن يفكر أحد بتنظيف رصيف عام، حتى لو كان أمام منزله!!
لا أحبذ عمل مقارنة مع المدن الأوروبية لأن الموضوع مخجل ومحبط.. ولكن السؤال المؤلم: لماذا مجتمعاتنا على هذا النحو من الفوضى واللامبالاة!؟ .المفكر «هشام شرابي» قدم أجوبة عديدة عن هذا الموضوع؛ وأوعز السبب لأنماط التربية السائدة في المجتمعات العربية، والتي ينتج عنها ما أسماها «الأسرة البطريركية»؛ وهي الأسرة التي تتسم بتماسكها الشكلي، إلا أن من نتائج أنماطها التربوية أن الطفل ينمو فيها وشعوره بأن مسؤليته الأساسية هي تجاه نفسه أو عائلته فقط، لا تجاه المجتمع، فهذا الأسلوب التربوي يولد شروطا نفسية واجتماعية لا تبقي سوى مجالا صغيرا للشعور بالواجب تجاه المجتمع الأكبر، الذي يتصوره الفرد كفكرة مجردة، لا ينطبق عليها مفهوم المسؤولية بصورة طبيعية، وإذا تصادف وجود مطالب عائلية متناقضة مع مطالب المجتمع، فمن الأسهل على الفرد أن يعطي الأولوية للقيام بواجبه تجاه العائلة على حساب المجتمع.
والفرد المرتبط عائليا بهذا الشكل، لن يمثل المجتمع له سوى عالم الصراع و»الفهلوة»، الذي ينتزع فيه الفرد مكانته بالقوة، وإذا انخرط في الحياة الاجتماعية، فلتأمين مصالحه الخاصة فقط، ومن هنا تتعزز الأنانية، وتصبح مصلحة الفرد أهم من المجتمع، وتغدو مشاعر الآخرين أمرا ثانويا، لا يعيرها أي اهتمام، إلا إذا ارتبطت بمصالحه ومشاعره.
ثم تتطور علاقة مشوهة بين الفرد (السلبي) وبين القانون، فمع أن معظم الدول العربية تتغنى بالقانون، إلا أن الأمر لا يعدو عن كونه مجرد أغنية في فضاء الشعار والتمني؛ فتلك الدول عادة ما تصدر قراراتها منطلقة من أرضيات غير ديمقراطية، وتمثل مصالح الطبقة الحاكمة، فلا يجد الناس في تلك القرارات صدى لهمومهم أو حلا لمشاكلهم، ومن المتوقع في ظرف كهذا أن يعزف الناس عن المشاركة في تنفيذ تلك القرارات، لعدم شعورهم بأي جدوى من المشاركة، وتزداد القطيعة ما بين المواطنين وحكوماتهم وبالتالي القوانين التي تمثلها، فلا يعود بالإمكان التمييز بين ما هو قانوني وفي خدمة الصالح العام، وبين ما هو آني ويعبر عن مصالح لفئات معينة، أو نتيجة وجود فساد في مؤسسات الحكم، ومع اتساع الهوة تزداد سلبية الناس وانكماشهم على ذواتهم، ويصبح الشأن العام لا يعنيهم إلا بقدر ما يمس حياتهم اليومية، ويصبح القانون غير ملزم لهم إلا بمقدار ما يخدمهم، وفي هذا المناخ تسود أساليب التورية والتمويه والالتفاف والتنصل من المسؤوليات والتهرب من المشاركة العامة، وتسود قيم الفردية والإنانية والسلبية.
ويعطي د.»شرابي» نماذج إضافية من الأنماط التربوية الشائعة في الأسرة والمدرسة؛ حيث يتعرض الطفل للاستهزاء والتوبيخ والصراخ أكثر مما يختبر التفكير والحب والرعاية، بحيث يسيطر عليه مفهوم العقاب والعادات التقليدية، أكثر مما يسيطر عليه مفهوم الضمير والقيم الداخلية، فيصبح المحرَّم عنده هو ما يراه الآخرون، لا ما يؤمن به، وبالتالي لا مشكلة لديه إن مارس ما هو محرَّم إذا ضَمِنَ أن لا يراه الآخرين، وبالتالي سنجد أن شعوره بالذنب يبقى متخلفا، وحل محله الشعور بالخجل أو الخوف من الآخرين، وكذلك فإن دافعه للقيام بالواجبات ليس قناعاته الذاتية بقدر ما هي محاولة لكسب رضى الآخرين وإعجابهم، أي بدافع الرياء والنفاق.
نحتاج لثورة ثقافية، وإعادة تصحيح المفاهيم، ولن نصبح مجتمعا محترما إلا إذا صرنا نحزن لموت شجرة، ونتأثر بذبول زهرة، ونحافظ على نظافة شوارعنا كما نحافظ على نظافة بيوتنا.. عندما نخلص في أعمالنا.