زياد جيوسي " رمزية الحلم في ريشة نهلة آسيا "

thumbgen (1)
حجم الخط

  ما زلت أحلق في ابداعات الفن التشكيلي للفنانة نهلة آسيا ومعرضها (حنين إلى الضوء)، وبعد التجوال الذي تم في الجزء الأول من المقال تحت عنوان (نهلة آسيا وحنينها الى الضوء)،  عن القسم الأول من المعرض والذي أسميته المكان والتراث، أنتقل الى القسم الثاني وأسميته لوحات الطبيعة: وهذه المجموعة من اللوحات التي تتكون من تسعة عشر لوحة يمكن أن تشكل معرضا مستقلا ومتكاملا، فهي تختلف بالفكرة والأسلوب عما سبق وتحدثت عنه، فهنا نحن مع الطبيعة بعنفوانها وهدوئها وجمالها، ورغم أن الفنانة تعتبر أن كل هذه اللوحات مرتبطة بالوطن فلسطين، إلا أنها جميعا يمكن ان تمثل لوحات انطباعية واقعية تنطبق على أي مكان، باستثناء لوحة واحدة تظهر بوضوح من خلال خلفية اللوحة أنها تمثل يافا، وهي لوحة نقلت صورة ميناء يافا في الماضي حيث تظهر المباني التراثية ومسجد حسن بك في الخلفية، وقد تمكنت الفنانة من ممازجة الالوان ورسم القوارب التي تسير بالتجديف اليدوي، بطريقة تعيد المشاهد لفترة كانت يافا تسمى فيها (أم الغريب) وعروس فلسطين، حين كانت السكينة والهدوء قبل الاحتلال البريطاني والاحتلال الصهيوني، وفي هذه اللوحات كانت هناك سبعة لوحات تظهر فيها القوارب كسمة مشتركة، منها خمسة لقوارب شراعية واثنتين لقوارب تعتمد التجديف، ونرى هناك لوحة يظهر فيها القارب الشراعي في قلب الميناء، لكن خلفية اللوحة وطبيعة غالبية المباني تبعد الفكرة عن شواطئ فلسطين بالفترة التي سبقت الاحتلالات، فالمباني تتكون من أدوار من ستة او سبعة أدوار باستثناء بعض المباني، وفي تلك الفترة التي مضت لم تكن المباني المرتفعة معروفة في مدن فلسطين ومنها الساحلية الأساسية يافا وحيفا وعكا، فالمباني التراثية والتي ما زال بعضها قائما لا تتجاوز الدور الواحد أو الدورين، ورغم جمالية اللوحة والألوان المشرقة والزاهية في اللوحة، الا انه لا بد من الاشارة للملاحظة التي أوردتها ان اردنا اعتبار أن اللوحة تمثل مدن الساحل الفلسطيني.

   باقي اللوحات منها ثلاثة لقوارب شراعية في الموانئ وان كان واحد منها تم انزال شراعه واثنين باشرعة مرفوعة، ولكن التدقيق يشير لعدم وجود أحد في القوارب، فكيف تترك الاشرعة مرفوعة في حال نزول البحارة من القوارب، التي تعتمد اصلا على الهواء الذي يدفع الشراع ويشكل قوة الحركة، وبدون انتقاص من جمالية اللوحات وألوانها ولكنها ملاحظات لفتت نظري ولا بد من الاشارة اليها، واما اللوحة التي لفتت نظري بجماليتها فهي للقارب بالمجاديف وهو متوقف في الميناء بجوار صخور الشاطئ وعاصفة قوية تهب عليه وتثور الأمواج بقوة ولكنه صامد، فشعرت بهذه اللوحة رمزية لصمود الشعب الفلسطيني في ظل كل الأعاصير التي تسعى لاقتلاعه، بينما اللوحة الأخيرة فهي جميلة جدا لقارب شراعي في لحظة الابحار متحديا العاصفة التي بدأت تهب عليه وتراكم الغيوم السوداء في الأفق، وإن احتاجت هذه اللوحة بجماليتها اهتمام أكبر من الفنانة، فالبثور المشوهة للألوان وخاصة في الغيمة فوق القارب عملت على تشويه بعض من جماليات اللوحة.

     باقي اللوحات وهي من اثنا عشرة لوحة تمثل الطبيعة بجمالها وأشجارها وورودها ومياهها وطيورها، وهي مشاهد جميلة ومريحة لعين المشاهد وروحه، لكن لا يمكن منحها صفة خاصة مرتبطة بالمكان، فهي لوحات طبيعية لمشاهد عامة يمكن أن تكون في أي مكان في العالم يحمل سمات مناخية تشابه مناخ البحر المتوسط.

   القسم الثالث وهي مجموعة من اللوحات الرمزية والتعبيرية: وهذه المجموعة تتكون من ثمانية لوحات حفلت بالرمزية التي تدفع المشاهد للتأمل والتفكير بها، وإسقاط هذه الرمزيات من خلال روحه على افكار قد يراها في اللوحة التي يشاهدها، فهناك لوحة تشكل المباني التراثية الخلفية فيها وأمامها جدار يتجه من الأسفل للأعلى على شكل وتر مثلث، وفي المساحة المنبسطة أمام الجدار نجد ثلاثة نساء يمثلن ثلاثة أجيال من الأعمار يقفن بصمت وينظرن لجثة امرأة ملقاة على الأرض، وواضح انها لإمرأة تعرضت للاصابة بالرصاص من الاحتلال، فالدم منتشر اسفلها، ووجود حذاء عسكري ضخم يؤكد الفكرة، وفي هذه اللوحة كانت الفنانة تستخدم الألوان الحارة بكثافة، فاللون الأحمر ينتشر في أرجاء اللوحة حتى على النساء الواقفات، وفي يسار اللوحة نجد اللون الأحمر وكأنه شلال ينسكب، بينما نجد اللون الاصفر وكأنه شعاع الشمس ينبثق بقوة من الارض على يمين المشاهد للوحة، وهو يتجه للأعلى نحو البيوت التراثية وكأنه اشارة أن الفجر قادم من الأرض المشبعة بالدم،  وفي المباني التراثية وفي منتصفها نجد نافذة مفتوحة بشكل مميز كإشارة رمزية ان نافذة الأمل ستفتح من خلال ابناء الشعب الغيارى القاطنين والمنزرعين بوطنهم وتراثهم وتاريخهم، وفي لوحة أخرى نجد وجه أعتقد أنه يرمز لنظرة وصمود الأسير خلف الجدران يطل من فجوة افتراضية، بينما الجدران تسيل عليها الدماء، وقد يكون رمزية للطفل الفلسطيني أيضا سواء في الأسر أو سجن الوطن من خلال الاحتلال، في اشارة واضحة أنه (للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق)، وفي هذه اللوحة اعتمدت الفنانة الألوان الداكنة التي تشير للعتمة، بينما على أطراف الفجوة في الجدار نجد اللون الأبيض وكأنه رمزية للابيض القادم والحرية والسلام.

      اللوحات الثمانية حفلت برمزية الحلم التي رسمت من خلال ريشة مغموسة بالوان الروح، وسأكتفي بالاشارة للوحة ثالثة من هذه اللوحات التعبيرية الحافلة بالرمزية، حيث نجد بيت قديم ببوابة قديمة ولكنها واسعة، وملاحظ أن البيت غير مبني بالحجارة أو على نظام بيوت العقود، مما يدلل أن البيت بسيط فهو يشابه البيوت الطينية التي كان يبنيها ويسكنها الفقراء من الشعب، وعلى بوابة البيت نجد جرة فخارية كبيرة في داخلها نبتة خضراء، وكان الفنانة تشير ان الغد الخصب آت من قلب بيوت الفقراء، حيث نرى انفراجات من خلال البوابة باللون الأبيض المتمازج بالأزرق، والفنانة في هذه اللوحة اعتمدت الرمزية في كل النواحي رغم بساطة اللوحة، ورغم استخدامها الألوان الداكنة التي ترمز للواقع الحالي، إلا أنها لم تخلو من الأمل رغم العتمة.

   خارج اطار هذه المجموعات الثلاثة والتي شعرت بها ثلاثة معارض في معرض كما أسلفت، إلا انه خارج هذه  اللوحات وجدت ثلاثة لوحات مختلفة تماما عن باقي لوحات المعرض ولا يربطها بها رابط، فهناك خزنة البتراء في المدينة النبطية في الأردن، وحقيقة استغربت وجود هذه اللوحة بين اللوحات فهي وإن اشارت لحضارة عربية بادت بعد أن سادت، إلا أن ارتباطها بلوحات التراث في المعرض شبه معدوم إن لم يكن معدوم تماما،  ولوحتين احداهما لوحة تقليدية (كلاسيك) تصور كأس وفاكهة وآلة البزق في بيت شاميّ الملامح، والأخرى لوحة جميلة جدا وهي أيضا لوحة كلاسيكية تعبيرية تمثل امرأة بمعطفها الأحمر ورداء اسود قصير تحتها وتحمل حقيبة اليد، تجلس على حافة الطريق تحت المطر وتحمل مظلة تقيها من المطر المنهمر بقوة وكأنها في حالة انتظار وترقب رغم قسوة الطبيعة، وبدون انتقاص من قيمة اللوحات الفنية، فهي تختلف تماما عن باقي اللوحات التي وجدتها في الثلاثة معارض في معرض كما اشرت، ولعل الفنانة ضمت بالمعرض كل نتاجها المتوفر بين يديها ولم تؤجل عرض أي من لوحاتها.

   نهاية كي لا أطيل أكثر بتفاصيل الحكايات التي ترويها كل لوحة من اللوحات، لا بد من الاشارة مجددا لبعض الهنات التي وقعت بها الفنانة، فالوجوه القريبة كانت بحاجة لاهتمام أكبر حتى تظهر تفاصيلها وخاصة العيون، فكثير من العيون التي ظهرت باللوحات كانت جامدة، وكذلك الأكف والأيدي، فرسم الأكف والاصابع من أدق العمليات الفنية في الرسم بالريشة، وهي تحتاج من الفنان تدقيق الصفات والخطوط والملامح للأكف والأصابع، مضافا لذلك كان يجب التدقيق على ظهور بثور وانسيالات لونية ناتجة عن تراكم الألوان على شكل حبيبات أو كثافة في العديد من اللوحات، وهذه من العيوب التي يجب ان ينتبه لها الفنان وأن يعالجها قبل جفاف اية لوحة يرسمها، اضافة أن العدد الكبير من اللوحات يسبب جهد كبير للمشاهد ويقلل من تمتعه باللوحات والتحليق بها والغوص في جمالياتها ورمزياتها.    

   مع هذا لا بد من الاشارة أنني تمتعت جدا بالتنقل بين اللوحات وتأملها، وشعرت بالفنانة نهلة آسيا تسكب الوانا نازفة من الروح والمشاعر والإحساس، فكانت تعبر عن النزف الفلسطيني والألم والحلم والأمل، فهي منتمية لوطنها الذي تحلم به الى درجة الانصهار رغم الشتات الفلسطيني الذي تعيش فيه، فهي ككاتبة مقال ونص أدبي وقاصة ايضا كانت تكتب من قلب هذا الانتماء والانصهار، وقد درست الفن لمدة عامين في مركز الدرة التابع لوزارة الثقافة الأردنية على ايدي فنانين يشهد لهم، مما يعني انها درست تقنيات الالوان والفن وأساليبه اكاديميا بحيث يجب ان تنعكس هذه التقنيات والدراسة على ابداعها، ولا أمتلك في النهاية الا أن اشد على يد الفنانة وأهمس لها: آمل أن اراكِ تصعدين القمة بهدوء، فالصعود السريع للقمة يسبب التعب.