مجرد انعقاد مؤتمر لوزراء خارجية من دول العالم، في هذه المرحلة بالذات، للبحث بشأن القضية الفلسطينية، هو خطوة جيدة؛ من باب أنه يعيد قضية فلسطين إلى أولويات الدبلوماسية العالمية. لكن على أرض الواقع، وقبل انتظار البيان الصادر من العاصمة الفرنسية باريس، فإن نتيجة هذا الحراك العالمي معروفة سلفا؛ كونه حراكا عابرا، ينضم لاحقا إلى أرشيف المبادرات الدولية. لأن الأمر الأساسي الضروري لإحداث انعطافه جدية تقود إلى حل القضية، غائب عن هذه المبادرة، وهو الضغط الدولي الحقيقي على النظام الصهيوني، وحكومته الرفضية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي قدم في الأيام الأخيرة مسرحية سخيفة مع أفيغدور ليبرمان، يرويان فيها أنهما يؤيدان "حل الدولتين".
فالاحتلال الإسرائيلي، خاصة في السنوات الأخيرة، لا يواجه أي نوع من الضغوط لإجباره على الانسحاب؛ فالأوضاع الفلسطينية الداخلية تشل المقاومة الشعبية الجماهيرية الواسعة، والأوضاع الإقليمية تعتبرها الصهيونية وحكومتها فرصتها الذهبية لحجب نظر العالم عن الانشغال بالقضية الفلسطينية. في حين أن العالم، أي دول القرار، تجد أيضا في الأوضاع الإقليمية مهربا لها من الانشغال بالقضية الفلسطينية، نظرا لما تراه من حجم مواجهتها مع الحكومة الإسرائيلية، وأذرع الأخطبوط الصهيوني وداعميه في دول العالم.
هذه الأوضاع، ساهمت في رفع منسوب العربدة الإسرائيلية، خاصة في سنوات حكومات نتنياهو الثلاث منذ العام 2009. والمجاهرة الإسرائيلية بالرفض القاطع لقيام دولة فلسطينية، تدل على مستوى العربدة. فالرفض يبدأ من شخص نتنياهو، الذي قال قبل يومين من الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية التي جرت في ربيع العام الماضي، إنه طالما هو رئيس حكومة، فلن تقوم دولة فلسطينية. وهذا هو الموقف الجارف في كل حزب الليكود وكتلته النيابية، التي يتزعم أحد نوابها "لوبي" من أجل "أرض إسرائيل الكاملة". كذلك فإنه في العام الأخير، بادر نواب اليمين، وضمنهم نواب "الليكود"، إلى تقديم 17 قانونا، تهدف كلها إلى فرض ما يسمى "السيادة الإسرائيلية" على الضفة المحتلة.
مشهد العربدة الأبرز شهدناه مساء يوم الإثنين الماضي، 30 أيار (مايو)، حينما راح نتنياهو ومعه حليفه في الحكومة وزير الحرب أفيغدور ليبرمان، يزعمان قبولهما بحل الدولتين، في مشهد سخيف باهت، كان واضحا أنه لغرض الاستهلاك الإعلامي، وأن الاثنين لا يقصدان ما يقولان. وهذا يذكرنا بمطلع صيف العام 2009، حينما ألقى نتنياهو ما عُرف بتسمية "خطاب بار إيلان"، الذي وصف فيه الدولة الممسوخة الهزيلة التي يوافق على قيامها كدولة فلسطينية. وليتضح في اليوم التالي أنه حتى في هذه يكذب، حينما قال والده العنصري المتشدد بينتسي نتنياهو لصحيفة "معاريف": "إن ابني نتنياهو لا يقصد قبوله بقيام دولة فلسطينية، وأنا أعرف ما أقول". وثبت لاحقا صحة كلام والد نتنياهو.
ما يراد قوله، هو أن أي حراك دولي لا يبدأ بالضغط الفعلي على المعتدي العربيد إسرائيل، سيبقى مجرد حراك "طق حنك"، لا يُغني ولا يفيد. وإن أرادت أوروبا لاستطاعت حتى من دون الولايات المتحدة الأميركية. إذ يكفي أن نعرف أن نسبة الصادرات الإسرائيلية الى الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي معا، تزيد عن 70 % من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، مناصفة تقريبا بين المنطقتين. ويكفي أن يتخذ الاتحاد الأوروبي قرار مقاطعة اقتصادية جارفة، لنجد إسرائيل تركع، بانهيار اقتصادي قيمته السنوية عشرات مليارات الدولارات.
بطبيعة الحال، لن نتوقع من أوروبا قرارا كهذا، فهي أصلا ليست موحدة حول القرارات الهشة التي اتخذتها في العام الأخير، مثل قرار وضع إشارة على بضائع المستوطنات، الذي قد يؤثر في أقصى حالاته ببضع عشرات ملايين الدولارات، قادرة الخزينة الإسرائيلية على امتصاصها.
وكما تبدو الصورة منذ الآن، فإن مؤتمر باريس الذي عقد أمس الجمعة، سرعان ما سيجد مكانه في أرشيف المبادرات الدولية التي شهدناها على مر عشرات السنين، وبالأخص في العقدين الأخيرين.
عن الغد الاردنية