ليس ثمة مفردة أو مجلد كلام يمكن أن يصف الوجع الفلسطيني الثاني بعد 5 حزيران 1967. وقد اصطلحنا على تسمية الخروج الثاني بـ"النكسة"، تمييزاً عن الـ"نكبة" في العام 1948 –ربما بقصد حقن بعض الأمل في الروح الفلسطينية- على اعتبار أن النكسة تراجع ربما يكون عارِضاً في مسير تقدمي. لكن تأمل السياق الفلسطيني كله حتى الآن يقول إن "النكسة" كانت تعميقاً هائلاً لنكبة 1948 وجعلها واقعاً أصعب على التغيير.
جزء من كارثية احتلال العام 67 هو أنه جبَّ خطيئة احتلال 48 على ما يبدو، وأتاح للغزاة المحتلين الإفلات بفعل الاحتلال الأساسي. ولنشاهد الخطاب العالمي –والعربي والفلسطيني الرسمي- بعد 67. إن الجميع يتحدثون الآن بصوت واحد عن احتلال واحد: احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضٍ عربية في العام 1967. وبذلك، إذا تخلى المشروع الاستعماري في فلسطين عن هذه المناطق، فإن القضية تكون قد سُوِّيت وأخذ كلٌّ حقه. حقّاً؟!
يستطيع أيُّ طرف يشاهد المسألة من الخارج أن يرى في هذه الحصيلة منطقاً عملياً. سيفكر أحد بأن مشروع الاستعمار في فلسطين التاريخية رسّخ نفسه على مدى عقود، وفرض حضوره بالقوة وبدعم قوى العالَم الكبرى. وربما يفكر على نحو: أين يذهب هذا "الشعب الإسرائيلي" إذا انتهى احتلاله لكل فلسطين التاريخية؟ أو، أي خيار للفلسطينيين في هكذا اشتراطات وكيفيات –بغض النظر عن أحقيتهم وعدالة قضيتهم- سوى القبول بأي شيء والتعايش مع الاحتلال كحقيقة وُجدت لتدوم؟ بمعنى آخر: تطبيع الاحتلال بحيث تنتهي عنه هذه الصفة!
بالنسبة للفلسطينيين، سيعني هذا "المنطق" الحكم عليهم بالاقتلاع النهائي من الجذور، وتوريث أبنائهم هوية مشوهة. إنهم لا يستطيعون إلا رؤية المصادرة التي تنطوي عليها هذه الأطروحات، لأنها ببساطة تستخلص نتائج منقطعة تماماً عن مقدماتها الأساسية. إن الفلسطيني الذي أُخذت قريته وبيته في العام 48، وخرج منها وما يزال حياً في المنفى، لا يستطيع أن يقبل بأن وطنه ليس له، أو بالكف عن المطالبة به كمظهر للاعتراف بالواقع. كما أن مشكلة المكان الذي يذهب إليه "الشعب الإسرائيلي" لا تُحل على أساس أن الفلسطينيين الذين هُجّروا في 48، يعيشون في أماكن ويتدبرون أمورهم الآن: في الشتات والمخيمات واللجوء! لماذا لا يعود المستعمرون الصهاينة إلى البلاد التي يحملون جنسياتها فقط؟!
تأبيد النكبة الذي صنعته "نكسة" 1967 لم يقتصر على الفعل الفيزيائي المتعلق بالخروج الثاني للاجئي 48 من الجزء المتبقي من وطنهم، وانضمام لاجئين إضافيين إليهم من فلسطين 67 في الشتات. كانت النكبة الثانية التي خلّفها هذا الاحتلال الثاني هي إحداث قطع تشويهي في الرواية الفلسطينية وإفراغها من تعالقها المنطقي. وبشكلها الحالي الذي تُنشر به في الداخل والخارج، سقطت من هذه الرواية فصولها الأولى الأساسية والفظيعة عن حلول غرباء محل أهل الأرض وتعمد إبادتهم وتشريدهم في العام 48، وسقطت معها أحلام أصحاب فلسطين التاريخية بالعودة إلى ممتلكاتهم والعيش في أرضهم بكرامة.
الحقيقة التي ينبغي أن تُشعر معدّلي الرواية الفلسطينية بالأسف ومعاقبة الذات، هي أن التنازل عن حق فلسطينيي 48 والاعتراف للمحتل بالوجود هناك كحضور مشروع، لم يأت بأي عائد لمواطنيهم من فلسطينيي 67 ولا لغيرهم. وكان الأحرى هو التمسك بالرواية الكاملة والحقيقية كل الوقت، كاستراتيجية وطنية لا تتعارض مطلقاً مع أي تكتيكات مرحلية في مشروع التحرر الذي لا يجوز أن يخلع جلده ويصبح مسخاً. لكن العدو استطاع استخلاص اعتراف ثمين من الفلسطينيين أنفسهم بشرعيته وبلا أحقيتهم في معظم وطنهم، بلا كلفة على الإطلاق.
هل يمكن التراجع عن التشويه الانتحاري للرواية الفلسطينية واستعادة النسخة الأصلية. يمكن حتماً، وينبغي. إنها ليست رواية من خيال مؤلف، وإنما هي وصف لحقائق مستقرة في التاريخ القريب، وأبطالها أحياءٌ يرزقون بالملايين. وسيكون في استعادة المطالبة بفلسطين التاريخية لأهلها بعض العزاء، على أساس الأمل المصاحب لمقولة "لا يضيع حق وراءه مطالِب". أما التغاضي المشين عن الحق، فتأبيد للظلم والقهر بعمل ذاتي. ويعرف الفلسطينيون بالتحديد ذلك الشعور الذي لا يوصف بفقدان الطبيعة مع فقدان الوطن، مهما أنجزوا مادياً في أصقاع الشتات.
كانت "النكسة" استكمالاً لسياق، وليس بداية رواية، وينبغي أن نصر على رؤيتها كذلك.
عن الغد الاردنية