أحد اهم افرازات الأزمة السورية كان تدفق آلاف اللاجئين السوريين إلى أوروبا بحثاً عن الأمن والأمان، والخلاف الأوروبي الأوروبي حول أفضل السبل للتعامل مع أزمة المهاجرين الذي يخترقون الحدود هرباً من الموت. وربما شكل الخلاف الناجم عن هذه الأزمة انعطافة في مستقبل مشروع التكامل الاوروبي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، كاشفا عن واحدة من أهم معضلاته. فبعد أن اعتقدت اوروبا أنها تجاوزت مشكلة الحدود وسؤال المعابر والتأشيرات الموحدة، وجدت أن ما تم فعلاً هو مجموعة من الاجراءات والتفاهمات الهشة التي سرعان ما انهارت أمام حقيقة الواقع، وهو ما قاد بعض الدول للإنسحاب من بعض التفاهمات وفرض اجرءات جديدة.
ثمة نقطتان بحاجة لاضاءة. تتعلق الأولى بمحاولة تقديم الأمر وكأن أوروبا وحدها من يستوعب اللاجئين السوريين الفارين من الموت بحثاً عن النجاة. فيما الحقيقة أن أوروبا أقل دول الجوار المستقبلة للاجئين استقبالاً لهم. صحيح أن غاية الكثبرين منهم هي دول شمال وغرب اوروبا خاصة النرويج والسويد وألمانيا وبريطانيا أمام المعاملة القاسية التي يلاقونها في دول شرق ووسط أوروبا، ولابد أن صورة الصحافية المجرية التي تعرقل المهاجر السوري لم تزل من الذاكرة بعد. وصحيح أن أن بعض الدول الأوروبية عبرت على الصعيد المعنوي واللفظي عن ترحابها باللاجئين السوريين، بل إن بعضها حددت عدد المهاجرين الذين ستقوم باستيعابهم واتخذت بعض التدابير اللازمة لذلك. ولكن تظل ثمة حقيقة غائبة في ظل هذا النقاش، تتمثل في أن دول الجوار السوري وخاصة الأردن ولبنان وتركيا اضافة الى مصر هم الدول الأكثر استضافة للمهاجرين السوريين حيث ثمة ملايين منهم في مخيمات مختلفة تنتشر في الأراضي الأردنية والتركية واللبنانية. ورغم الإمكانيات المتواضعة لبعض هذه الدول خاصة في الأردن ولبنان إلا أن ثمة جهود ومساعدات مختلفة تجعل عملية الاستضافة ممكنة، وإن لم يحظ الأمر بالكثير من النقاش الذي حظي به استقبال أوروبا لهم. ربما لأن هذا من المنطقي بمعني أن من المنطقي أن تقوم دول الجوار في الأزمات باستضافة المهاجرين خاصة مع التقارب العرقي واللغوي والديني، ولكن أيضاُ رغم ذلك لابد من التذكير بهذه الحقيقة دائماً، حتى لا يتم الأمر وكانه استمرار لنهج احتكار الفضيلة والأخلاق.
القضية الثانية والتي لا يمكن لها أن تكون في صالح القضايا العربية هي حالة السلبية المطلقة التي تتعامل بها الدول العربية الغنية خاصة دول الخليج مع ازمة المهاجرين السوريين وقبلهم العراقيين. فالدول العربية الغنية في الخليج لم تستوعب أي لاجيء عربي. بل إن معاملة المواطنين العرب في هذه الدول تكاد تاتي درجات بعد معاملة العمال والموظفين من بلدان أخرى في ممارسة لا يمكن فهمها. فانت قد تعمل عشرات السنوات في دول الخليج دون أن تحصل على الجنسية، فيما في أي بلد في العالم – أوروبا مثلاً- ثمة قوانين ناظمة للتجنس تجعل الاستفادة من المهاجرين سواء كانوا عقولاً أو أيد عاملة أمراً محتوماً ومرحباً به رغم بعض الممارسات العرقية ، واستيعاب مئات أو آلاف أو ربما عشرات آلاف اللاجئين لا يمكن له أن يساهم بأي حال باختلال التوازن الديمغرافي أو احداث اهتزازات فيه خاصة أن اللغة نفسها والعرق نفسه والمذهب الديني ربما نفسه وأشياء كثيرة أخرى. لكن الآلية التي يتم فيها النظر إلى قضية التجنيس تجعل رفض المواطن العربي في بلدان الخليج إلا بوصفه عاملاً مأجوراً يأخذ راتبه ويتم طرده وقتما رأت الدولة ذلك، كل هذا يسيء إلى مفهوم «العروبة» التي لا يهتم به أحد.
وربما هذه الممارسة هي ما يجعل مواقف ميركل مثلاً أكثر تقدماً من مواقف جل الزعماء والملوك والشيوخ العرب ومواقف مؤتمرات الاتحاد الأوروبي بشان المهاجرين السوريين أكثر إنسانية وجرأة ربما من مواقف القمم العربية. فالجامعة عاجزة عن فرض أي قوانين ناظمة على اعضائها حول استقبال اللاجئين وسبل معاملتهم، بل إنها لا تناقش الموضوع، وهي أسيرة أجندة الدول «الدافعة» مقابل مصالح المواطن العربي. وهذه قضية بحاجة للكثير من النقاش الذي يشكف أن النظام العربي الإقليمي بحاجة للكثير من أعادة النظر، بل يجوز السؤال بشكل عام حول جدوى وجود جامعة دول عربية من الأساس.
ولكن لننتبه أن الهجرة بين البلدان المختلفة ليست وليدة ازمة ما. فالهجرات المختلفة بين الدول والأقاليم قديمة قدم وجود الإنسان ورحلات الجماعات بحثاً عن المناخ الأفضل والأرض الأخصب والأمن والاستقرار. والثقافة العربية كانت الاكثر استيعاباً تاريخياً لدمج الشعوب الأخرى في متنها وصهرها في بوتقة معرفتها الشمولية ويمكن بالنظر إلى وجوه الناس في المدن العربية التعرف على الأصول المتعددة للكثير من الأعرق والأجناس. ولابد من التنويه إلى أن هذا سبق الحضارة العربية الإسلامية أي أنه كان موجوداً قبل الدعوة من بلال الحبشي مثلاً إلى صهيب الرومي. كما أن أحياء الخواجات والأحياء اليونانية والطليانية في مدن الساحل العربي تشير كيف كانت المنطقة العربية نقطة جذب عالية للهجرة من أوروبا.
وعند الحديث عن الهجرة المعاكسة من المنطقة العربية إلى أوروبا فهي نتيجة حتمية للاستعمار وإن كانت وجدت قبله خلال التواجد العربي في أوروبا. فانت تجد العربي في رواية فلوبير «مدام بوفاري» ،ومن يسير في مدينة مانشستر الإنجليزية يجد شارعاً قديما باسم شارع «الطب» الذي تقول المصادر أن طبيباً عربياً كان يسكن فيه. وغير ذلك.
بالمجمل فإن النظر إلى قضية الهجرات وانتقال المواطنين من بلد لآخر لابد من النظر إليه ضمن سياق أوسع من تطور الحضارة وتفاعل الشعوب. ولكن المؤسف في كل ذلك أن الحضارة الاكثر مقدرة على الدمج والتفاعل باتت أكثر عجزاً عن حتى استيعاب حركة الانتقال داخلها وليس من خارجها. شكراً للسيدين سايكس وبيكو في ذكرى اتفاقهما المئوي.
ثمة نقطتان بحاجة لاضاءة. تتعلق الأولى بمحاولة تقديم الأمر وكأن أوروبا وحدها من يستوعب اللاجئين السوريين الفارين من الموت بحثاً عن النجاة. فيما الحقيقة أن أوروبا أقل دول الجوار المستقبلة للاجئين استقبالاً لهم. صحيح أن غاية الكثبرين منهم هي دول شمال وغرب اوروبا خاصة النرويج والسويد وألمانيا وبريطانيا أمام المعاملة القاسية التي يلاقونها في دول شرق ووسط أوروبا، ولابد أن صورة الصحافية المجرية التي تعرقل المهاجر السوري لم تزل من الذاكرة بعد. وصحيح أن أن بعض الدول الأوروبية عبرت على الصعيد المعنوي واللفظي عن ترحابها باللاجئين السوريين، بل إن بعضها حددت عدد المهاجرين الذين ستقوم باستيعابهم واتخذت بعض التدابير اللازمة لذلك. ولكن تظل ثمة حقيقة غائبة في ظل هذا النقاش، تتمثل في أن دول الجوار السوري وخاصة الأردن ولبنان وتركيا اضافة الى مصر هم الدول الأكثر استضافة للمهاجرين السوريين حيث ثمة ملايين منهم في مخيمات مختلفة تنتشر في الأراضي الأردنية والتركية واللبنانية. ورغم الإمكانيات المتواضعة لبعض هذه الدول خاصة في الأردن ولبنان إلا أن ثمة جهود ومساعدات مختلفة تجعل عملية الاستضافة ممكنة، وإن لم يحظ الأمر بالكثير من النقاش الذي حظي به استقبال أوروبا لهم. ربما لأن هذا من المنطقي بمعني أن من المنطقي أن تقوم دول الجوار في الأزمات باستضافة المهاجرين خاصة مع التقارب العرقي واللغوي والديني، ولكن أيضاُ رغم ذلك لابد من التذكير بهذه الحقيقة دائماً، حتى لا يتم الأمر وكانه استمرار لنهج احتكار الفضيلة والأخلاق.
القضية الثانية والتي لا يمكن لها أن تكون في صالح القضايا العربية هي حالة السلبية المطلقة التي تتعامل بها الدول العربية الغنية خاصة دول الخليج مع ازمة المهاجرين السوريين وقبلهم العراقيين. فالدول العربية الغنية في الخليج لم تستوعب أي لاجيء عربي. بل إن معاملة المواطنين العرب في هذه الدول تكاد تاتي درجات بعد معاملة العمال والموظفين من بلدان أخرى في ممارسة لا يمكن فهمها. فانت قد تعمل عشرات السنوات في دول الخليج دون أن تحصل على الجنسية، فيما في أي بلد في العالم – أوروبا مثلاً- ثمة قوانين ناظمة للتجنس تجعل الاستفادة من المهاجرين سواء كانوا عقولاً أو أيد عاملة أمراً محتوماً ومرحباً به رغم بعض الممارسات العرقية ، واستيعاب مئات أو آلاف أو ربما عشرات آلاف اللاجئين لا يمكن له أن يساهم بأي حال باختلال التوازن الديمغرافي أو احداث اهتزازات فيه خاصة أن اللغة نفسها والعرق نفسه والمذهب الديني ربما نفسه وأشياء كثيرة أخرى. لكن الآلية التي يتم فيها النظر إلى قضية التجنيس تجعل رفض المواطن العربي في بلدان الخليج إلا بوصفه عاملاً مأجوراً يأخذ راتبه ويتم طرده وقتما رأت الدولة ذلك، كل هذا يسيء إلى مفهوم «العروبة» التي لا يهتم به أحد.
وربما هذه الممارسة هي ما يجعل مواقف ميركل مثلاً أكثر تقدماً من مواقف جل الزعماء والملوك والشيوخ العرب ومواقف مؤتمرات الاتحاد الأوروبي بشان المهاجرين السوريين أكثر إنسانية وجرأة ربما من مواقف القمم العربية. فالجامعة عاجزة عن فرض أي قوانين ناظمة على اعضائها حول استقبال اللاجئين وسبل معاملتهم، بل إنها لا تناقش الموضوع، وهي أسيرة أجندة الدول «الدافعة» مقابل مصالح المواطن العربي. وهذه قضية بحاجة للكثير من النقاش الذي يشكف أن النظام العربي الإقليمي بحاجة للكثير من أعادة النظر، بل يجوز السؤال بشكل عام حول جدوى وجود جامعة دول عربية من الأساس.
ولكن لننتبه أن الهجرة بين البلدان المختلفة ليست وليدة ازمة ما. فالهجرات المختلفة بين الدول والأقاليم قديمة قدم وجود الإنسان ورحلات الجماعات بحثاً عن المناخ الأفضل والأرض الأخصب والأمن والاستقرار. والثقافة العربية كانت الاكثر استيعاباً تاريخياً لدمج الشعوب الأخرى في متنها وصهرها في بوتقة معرفتها الشمولية ويمكن بالنظر إلى وجوه الناس في المدن العربية التعرف على الأصول المتعددة للكثير من الأعرق والأجناس. ولابد من التنويه إلى أن هذا سبق الحضارة العربية الإسلامية أي أنه كان موجوداً قبل الدعوة من بلال الحبشي مثلاً إلى صهيب الرومي. كما أن أحياء الخواجات والأحياء اليونانية والطليانية في مدن الساحل العربي تشير كيف كانت المنطقة العربية نقطة جذب عالية للهجرة من أوروبا.
وعند الحديث عن الهجرة المعاكسة من المنطقة العربية إلى أوروبا فهي نتيجة حتمية للاستعمار وإن كانت وجدت قبله خلال التواجد العربي في أوروبا. فانت تجد العربي في رواية فلوبير «مدام بوفاري» ،ومن يسير في مدينة مانشستر الإنجليزية يجد شارعاً قديما باسم شارع «الطب» الذي تقول المصادر أن طبيباً عربياً كان يسكن فيه. وغير ذلك.
بالمجمل فإن النظر إلى قضية الهجرات وانتقال المواطنين من بلد لآخر لابد من النظر إليه ضمن سياق أوسع من تطور الحضارة وتفاعل الشعوب. ولكن المؤسف في كل ذلك أن الحضارة الاكثر مقدرة على الدمج والتفاعل باتت أكثر عجزاً عن حتى استيعاب حركة الانتقال داخلها وليس من خارجها. شكراً للسيدين سايكس وبيكو في ذكرى اتفاقهما المئوي.