حكاية الأمير والسمكة..!!

حسن-خضر
حجم الخط
من الأطباق الشهيّة على موائد اليابانيين، سمكة صغيرة الحجم، ولذيذة الطعم، اسمها "فوغو" يُعدونها بطريقة خاصة، فهي سامّة، ولا تصبح صالحة للأكل قبل نزع السم. وكما يحدث لأشياء وكائنات كثيرة تحوّلت السمكة إلى مجاز في السياسة. سنعود إلى "فوغو" بعد قليل، لأننا نحتاج، الآن، للكلام في موضوع آخر بعيداً عن السمك، والسم، وإن كان وثيق الصلة بأشياء كهذه.
المقصود لقاءات السعوديين مع الإسرائيليين، هذه الأيام، في وضح النهار، لأسباب مفهومة ومعلومة. ولعل أبرزها لقاء، في الشهر الماضي، لم يكن الأوّل بين الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية، والجنرال عاميدرور، المستشار السابق للأمن القومي في إسرائيل. التقى الاثنان في مناظرة نظّمها معهد واشنطن، في العاصمة الأميركية.
لم يفشّل المعلّقون العرب في التعليق على الموضوع، ولكنهم توقفوا، على نحو خاص، عند عبارة جاءت على لسان الأمير عن عوائد السلام، في هذا الجزء من العالم، إذا تحالف "العقل العربي" مع "رأس المال" اليهودي، فذكّروا الأمير أن العقل العربي لا يحتاج المال اليهودي، وأن العرب يملكون الاثنين، وسددوا أكثر من ضربة تحت الحزام، كما جرت العادة في حالات كهذه.
ولنقل إن "حكاية" العقل العربي، والمال اليهودي، جديدة بين العبارات المُتداولة في قاموس السياسة العربية. وهذا ما ستدعى العودة إلى الفيديو المصوّر للندوة، في محاولة لمعرفة السياق الذي وردت فيه عبارة كهذه، والتأكد من أنها قيلت بالفعل. وثبت أنها قيلت بالفعل، ولكن اعتماد الكثير من المعلّقين العرب على طريقة القص واللصق، دون التحقق بالعودة إلى المصدر الأصلي، شوّهت الدلالة الحقيقية للعبارة المعنية. ففي الفيديو ما أن فرغ الأمير من عبارته حتى تعالى صوت الضحك في القاعة، كما يفعل الناس عند سماع نكتة، أو مفارقة، لاذعة.
يعرف الأمير الذي تعلّم في الولايات المتحدة، وعاش سنوات طويلة هناك، أن "خفة الدم"، ولعبة المعنى (المفارقة) من مؤهلات التواصل الشخصية الناجحة في ثقافة الأميركيين. لذلك، أعاد تحوير صورتين نمطيتين عن العرب (الذين يملكون المال) واليهود (الذين يملكون العقل) فقلب المعنى ليقترب من قلوب سامعيه، وكافأه هؤلاء بالضحك للقول إن الرسالة وصلت.
وهنا نعود إلى "فوغو". حاول اليابانيون في الحرب العالمية الثانية الحيلولة دون انخراط الولايات المتحدة بالمتحاربين في ميادين القتال. وتفتق ذهن بعض الساسة، والاقتصاديين، والجنرالات، في حينها، عن ضرورة الاستعانة باليهود الأميركيين، لأنهم يملكون المال، ويتحكّمون بالإعلام، لتجنيد الرأي العام، والضغط على صانعي السياسة، لإقناعهم بعدم دخول الحرب.
وعلى سبيل الرشوة، أو المقايضة، عرضوا على زعماء اليهود الأميركيين إنشاء "وطن قومي" لليهود في منشوريا، التي سبق واحتلوها في العام 1931. وعلى طريقتهم لم يغفلوا التفاصيل، فوضعوا خرائط للمدن، والسكك الحديدية، والمعامل، ولم يغفلوا حتى رياض الأطفال، وتكتموا على الخطة التي أطلقوا عليها اسم "فوغو" لأنها تشبه السمكة السامّة: إذا طبخوها جيداً نجوا، وإن فشلت الخطة تسمموا.
لم يكن في وارد اليهود الأميركيين القبول بصفقة كهذه، رغم أن بعض الفارين اليهود من أوروبا المحترقة بنيران الحرب، وجدوا طريقهم إلى منشوريا. والأهم أن فكرة اليابانيين عن نفوذ اليهود الأميركيين كانت مبنية على مبالغات وأوهام، ومُستمدة من تصوّرات وصور نمطية شائعة، ومعادية للسامية في التحليل الأخير.
وفي هذا ما يعيدنا، أيضاً، إلى مبالغات، وأوهام، وتصوّرات وصور نمطية، يمكن العثور عليها في لعبة بالمعنى التي تبادل فيها العقل اليهودي والمال العربي الأدوار. والمهم، في هذا الشأن، أن تصوّرات النخب السائدة، في العالم العربي، عن اليهود، وعقولهم، وأموالهم، ونفوذهم، في الولايات المتحدة لا تختلف كثيراً عن اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، ولا تبتعد كثيراً، في العمق، عن الأساطير المؤسسة للعداء للسامية.
فالتحالف بين الأميركيين وإسرائيل لم ينجم عن مؤامرة، ولا عن شطارة اللوبي الصهيوني في واشنطن، بل عن علاقة عضوية بين مجتمعين استيطانيين، وعن تطابق المصالح، وتبادل الخدمات، وثقافة فيها الكثير من المتشابه والمُشترك بشان العلاقة مع السكّان الأصليين. والأهم من هذا وذاك أن كفاءة ونجاعة الأسلحة الأميركية في يد الإسرائيليين تثير إعجاب الأميركيين، خاصة في زمن الحرب الباردة، التي خاض فيها العرب حروبهم بأسلحة سوفياتية.
ومن جانب آخر، وعلى الرغم من غموض تعبيرات من نوع "العقل العربي" و"العقل اليهودي"، في مجرّد قلب المعنى، في لعبة لغوية تبدّلت فيها الأدوار، ما ينم عن حقيقة أن النخب السائدة، في العالم العربي، لا تنظر بقدر كبير من الإيجابية إلى "عقول" شعوبها، أو "العقل" العربي عموماً، ولن تجد على الأرجح بين مخاطبيها، في الغرب، إذا صدقوها القول، ما يخالف نظرة كهذه. والأهم، عجز النخب نفسها عن إدراك مسؤوليتها عمّا أصاب "عقلاً" يقود شعوباً وجماعات إلى الانتحار الجماعي، في لحظة ينهار فيها عالم العرب، وتشتعل فيه النيران.
أما خرافة المال العربي، فلا شيء يسندها في الواقع. فالناتج الإجمالي المحلي لكل العالم العربي لا يوازي مثيله في دولة أوروبية متوسطة القيمة. وإذا صدّق أحد أن قطر، مثلاً، أصبحت دولة مهمة، وعلى "الخارطة" لأن حماس ترفع صور أميرها في غزة، أو لأنها اشترت الحق في استضافة المونديال بالمال، فلن يكون أقل جنوحاً في الخيال من يابانيين حاولوا إعداد "فوغو" الصغيرة السامّة في مطبخ السياسة الدولية. وهذه حكاية الأمير والسمكة.