عودة فلسطين.. أم غزة؟

thumbgen (8)
حجم الخط
 

أنْ تصحو نهار عامك العشرين حالمًا أن انقشاع ليل فلسطين يدنو، وأن طريق عودتك من القاهرة إلى قطاع غزة سيمر بك عبر يافا، أو ربما تبدأ بأرض بئر السبع أولاً، ثم تتذكر أن القدس أوْلى، إذ كفاها أولوية أنها أُولى القبلتين، أن تنهض من نومك منتعشًا بطوفان كل تلك الآمال، فذلك حق لك مشروع. كيف لا، وقد أمضيت سنين صباك ومطالع شبابك عَطِشًا لكل نسمة هواء تستلقي على حافة رصيف بقايا ميناء غزة، متخيلاً أنها آتية من وراء سور عكا، أو لعلها أبحرت من ميناء حيفا. ذلك حلم عاشه جيلي بوعي تام. كنا على درجة يقين كافية لتحصين إيماننا إزاء أي تشكيك بقرب عودة فلسطين كلها. آخر ما خطر لنا أن حلم العودة من قطاع غزة إلى فلسطين سوف يُختزل، بعد حين، إلى الحلم بعودة أبناء القطاع المغتربين، طلابًا أو موظفين، إلى غزة ذاتها.

ها قد مرّت تسعة وأربعون عامًا منذ تدحرجت أمام أعين جيلي، نهار الخامس من يونيو (حزيران) 1967. كرة نار الهزيمة، فانكشف المستور، وإذا كل ما بنينا من أحلام ينهار بلمح البصر، لتحمله الرياح كأنه هباء منثور. هل أنا بصدد ملء هذا المساحة بما يضيف بكائية إلى ما تراكم مما كتبه غيري من جبال بكائيات هزائمنا غير المجيدة؟ كلا. لكن هل من الخطأ التساؤل عما آل إليه حال أكثر من جيل أتى بعد جيلي؟ المنطق يقول إن هذا التساؤل مشروع. وكيف لا يكون هذا التساؤل مشروعًا بينما أجيال من الفلسطينيين ما تزال تتجرع، جيلاً بعد جيل، مرارات حروب تُجر إليها جرًا، حروب تشنها إسرائيل، وأخرى يشعل فتيلها صراع التنظيمات الفلسطينية. هنا صورة ميدانية لحال شريحة من شبان غزة وشاباتها، الذين هم الآن في عشرينيات العمر، أنقلها من تقرير بثته أمس «نبا برس» عن أول أيام شهر رمضان، كما عاشته عائلات مُهجّرين من بيوتهم في غزة، إلى «كارافانات» داخل غزة ذاتها. تقول كاتبة التقرير منى حجازي: «أمام نار الحطب المستعرة، جلست العشرينية سوزان أبو هربيد تتصبب عرقًا، وهي تحاول الانتهاء من إعداد خبز الإفطار لعائلتها ليوم رمضان الأول. تخرج رغيفًا وتدخل آخر. الداخل مصيره مجهول، وأما الخارج فمصيره محتوم، تتسابق إلى قضمه أسنان أطفالٍ تحلّقوا حولها جياعًا. كانت تعطيهم برضا، ولسان حالها يقول بعد حمد الخالق على كل حال: (يا رب توب علينا من هالعيشة يا رب). سوزان واحدة من سكان كرفانات مدينة بيت حانون، شمال قطاع غزة، حالها كحال كل جيرانها الذين تعدّى عمر علاقتهم بالكرفان العام والنصف، بعد أن قررت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) إخراجهم من مدارسها التي آوَوْا إليها بعدما هدم الاحتلال بيوتهم في حرب الواحد والخمسين يومًا العام قبل الماضي؛ كلهم مثلها كانت عيونهم تحدق نحو المجهول. كلهم يتساءلون عن يوم الفرج، وكلهم يعدّون كرفاناتهم (سجونًا ملوّنة) فوق (أرضٍ ميتة)، وكلّهم أيضًا يعيشون رمضان اليوم وفي قلوبهم غصّة، وينظرون إلى الأمس حيث كان للشهر الكريم في بيوتهم نكهة أخرى لا يذوقون منها هنا إلا مرار الهجرة».

الصورة أعلاه مرفوعة إلى زعماء التنظيمات الفلسطينية كافة، بكل ألوان راياتها ونارية شعاراتها، الزعماء الذين نجوا من قضاء شهر رمضان في «كارفانات»، إنْ بغزة أو بأي أرض توجد فيها مقار لتنظيم فلسطيني مجهزة بأثاث، ومكتظة بموظفين، وتصدر عنها نشرات دورية، وربما صحف ومجلات، أو مواقع إنترنتية، إلى كل مسؤول فلسطيني ليس مضطرًا لتناول إفطار رمضان أمام كومة حطب مستعر، وإنما مع الأسرة، الرفاق، الإخوة، الأصحاب، اختر ما تشاء، المهم أن الوضع مريح، والطعام طيب المذاق، ما المشكل؟ لا شيء، لا شيء على الإطلاق، دعوا مهجّري «الكرفانات» داخل غزة يستعرون بحطب مواقد الإفطار، ودعوا مُعتري القطاع كله يعانون انقطاع الكهرباء في عزّ حر الصيف، ولكم أن تواصلوا ولاءات لكم، مقارها تتوزع بغير أرض في القارات الخمس، لكنها تفرض عليكم استمرار انقسامكم حتى إشعار مجهول، ولا بأس من استئناف مفاوضات مصالحاتكم، بين حين وآخر، أين المشكلة؟ فلتنتظر سوزان أبو هربيد أمام الحطب المُستعر، في «الكارفان» نفسه، حتى ترى أحفادها يولدون أمام الموقدة ذاتها!