هل لدى أي من المتابعين والذين توقفوا عن مطاردة أخبار اللقاءات بين حركتي فتح وحماس أي أمل بجولة الحوار القادمة في الدوحة ؟ ماذا لو أجرينا استطلاعا لنسبة تفاؤل الجمهور عن تلك الجولة التي ستضاف إلى سلسلة الجولات الكثيرة والطويلة، كم ستكون النسبة..؟ بالتأكيد معروفة أو قريبة من منطق كان يتجسد أمامنا طيلة السنوات الماضية لم يحمل غير الفشل في كل مرة.
هو الدرس الذي حفظه كل مواطن عن ظهر غضب وإحباط كان يتعزز بعد كل نهاية لقاء، سيناريو تكرر حد الملل، دعوة .. تحضير للقاء .. كرم طافح من الابتسامات.. تهدئة مؤقتة للاتهامات.. وما أن تنتهي الجولة حتى تعود وصلات الهجوم وتحميل مسؤوليات وعودة لمربع الصفر وهكذا بانتظار دعوة جديدة من عاصمة جديدة كأن ملف المصالحة هو ملف دبلوماسي يتطاير بين العواصم لكن بات واضحاً أنها دبلوماسية إهدار الوقت في حوار الطرشان.
لم أكن أعرف بدقة ماذا يعني حوار الطرشان إلا حين وجدت نفسي قبل فترة طويلة استمع لحوار بين عجوزين لاجئين في أحد المجالس كانا قد هاجرا من قرية واحدة العام 48، ومع تقدم العمر فقدا حاسة السمع لاحظت أنهما يتبادلان حديثاً مطولاً الأول كان يتحدث عن ذكريات البلدة قبل الرحيل يتلقف الآخر منه الحديث ويهز رأسه موافقاً ويقول شيئاً مختلفاً عن العريش المصرية، هذا تماماً ما يحدث بين وفدي الحركتين الفلسطينيتين الكبيرتين كل منهما يتحدث في واد غير الآخر وبنفس إيماءات العجوزين وبنفس الابتسامات.
وفيما تحمل السلطة وحركة فتح مشروعاً هو نتاج برنامج منظمة التحرير الفلسطينية وإن كان محل جدل في الواقع السياسي شديد الاستقطاب لكنه أصبح البرنامج الذي أدى لنشوء السلطة ويؤدي لاستمرارها، فإن حركة حماس تتحدث عن مشروع آخر تماماً لا علاقة له بإقامة السلطة ولا برنامجها مؤكدة في كل مرة على أن برنامج حكومة السلطة ليس له علاقة ببرنامج المنظمة لذا لم يكن من مصادفات التاريخ أن تكون هذه هي النتائج.
السلطة لا تريد أن تفهم أن حركة حماس تأسست منذ ولادتها كند لمنظمة التحرير ومنافس لها وما زالت أسيرة تلك الولادة التي ستمنعها أن تتقدم باتجاه برنامج المنظمة وخاصة بعد الاتفاقيات التي وقعت مع إسرائيل، تلك الاتفاقيات والتي تشكلت ثقافة حماس في السنوات الأخيرة على معارضتها بل وأكثر من ذلك اسقاطها وبالمقابل حركة حماس ليست مستعدة لأن تفهم أن تلك الاتفاقيات هي اتفاقيات دولية وهي أساس وجود السلطة التي تجري حوارات توزيعها والتوافق عليها، وليست مستعدة لفهم أن عدم القبول بتلك الاتفاقيات يعني هدم السلطة أولاً وبالتالي هنا أزمة الحوار كل يتحدث عن سلطة مختلفة عن سلطة الآخر.
فلا السلطة أبدت حتى اللحظة استعداداً لحل نفسها والقبول بسلطة خارج إطار الاتفاقيات على نمط سلطة حركة حماس في قطاع غزة، ولا حماس أبدت حتى اللحظة أي استعداد لقبول السلطة بإرثها والتزاماتها وبالتالي ليس من الصعوبة التنبؤ بفشل الحوار الذي يحتاج أولاً إلى تفاهم برنامجي قبل أي شيء آخر، أما النقاش الدائر على وسائل الإعلام بعيداً عن أساس الخلاف يتركز حول قضايا هي نتائج وليست أسبابا حول الحكومة والرواتب وما شابه.
ربما أن الأمر بحاجة إلى نقاش من نوع مختلف غير هذا الذي تكرر في كل مرة، وقد أصبح الأمر معروفاً للجميع فلا قاسم مشتركا يشكل أرضية لحوار البرامج وربما أيضاً لا نية مشتركة لإنجاح أي حوار، فقد تم اقتسام ما فاض عن حاجة إسرائيل من سيطرة في هذا الوطن ولا فعل سياسيا في السنوات الأخيرة غير هذا الحوار الذي يحاول تعبئة الفراغ الحاصل في الساحة الفلسطينية.
فها هي العواصم تتصل وتدعو وتستضيف وتطلب والفصائل في حالة حراك دائم حتى الصغيرة منها وكل يجد لنفسه دوراً في هذا الملف ويتعزز أكثر هذا الدور على مستوى الاقليم مع استمرار الاستعصاء الحاصل.
المسألة هنا لا تتعلق بديناميات السياسة المعروفة فمن حق الفصائل أن تتحاور ومن حقها أيضاً أن تكون عاجزة ومن حقها أن تفشل هذا شأنها ولكن ليس من حقها أن تطلب منا نحن أن نسدد فاتورة ذلك العجز من جيوبنا الخاوية وسنوات عمرنا المهدورة بإصرار وترصد وسذاجة فاقت حدود التوقع.
فما نشهده ونشاهده من رحلات وفود الفصائل إلى القاهرة وبعدها إلى الدوحة تحول في الحقيقة إلى حالة كاريكاتورية في السياسة الفلسطينية لم تعد تأخذ طابعها الجدي في النقاش لأنها أصيبت بالعطب في مصداقيتها.
النقاش الجدي يجب أن يفتح أعيننا على حقيقة تأكدت بعد هذا الحوار المزمن هو أن هناك خللاً ربما في الثقافة السياسية لدى النخبة السياسية التي تقود خللا في مفهومها للحكم وينعكس ذلك في الممارسات الناتجة عنه.
بات واضحاً أن النظام السياسي والأحزاب الفلسطينية لا تعرف حتى اللحظة أن صاحب السلطة وصاحب السيادة هو الشعب وإلا لما استمرت تتصرف بهذا الشكل، وبات واضحاً أنهم يعودون للقرون الوسطى، عصر الاقطاع الذي يملك والكنيسة التي تحكم وأن الشعب مجرد عبيد أو أن هناك نخبة سياسية كما في المدينة اليونانية القديمة مولودة فقط للحكم، وإلا ماذا يعني أن نسمع في الألفية الثالثة مصطلح الراعي والرعية الذي يقف عند تلك العصور بعيداً عن مفاهيم الديمقراطية وحرية الشعب وسيادته وحقه في اختيار قيادته واستبدالها.
من يراقب الحوار يدرك أن أصحابه يتعاملون أنهم مالكو السلطة والشعب، حتى وأن هذا الشعب في عرفهم لا يساوي جناح بعوضة وإلا لكان السلوك مختلفا، وأن السلطة هي ملك وحكر لمن يقود، انهم ورثة عصر المفاهيم القديمة، عصر الدكتاتوريات والانقلابات حين كان من يصل للسلطة ولو مرة واحدة يصبح سيدا ويسبغ على نفسه مفاهيم القبلية، هم هكذا واضح أن الأمر بحاجة إلى ثقافة سياسية مختلفة بل ويتصرفون بأن الشعب ليس له إرادة، يقررون ما يشاؤون ويفعلون ما يريدون ويتحاورون لسنوات طويلة فمن يقول لهم: كفى عبثاً..!!