في أسلوب دعاوي خاص يشبه بأثره قذف الحجارة الكبيرة في المياه الساكنة، تستهدف حملات المقاطعة المحلية؛ تحريك المشاعر واستفزاز الضمير الجمعي الفلسطيني، فنظمت حملتها الرمضانية تحت عنوان، صيامك حلال – رمضان "توف".
ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها حملات المقاطعة إلى استفزاز المواطن للوصول إلى تحريك النقاش لحصد النتائج الإيجابية، فقد قامت بعض الحملات، خلال الحرب على قطاع غزة 2014، العمل تحت اسم "ادعم احتلالك" أو "ادعم عدوك"، بقصد دعوة مستهلكي بضائع الاحتلال خاصة إلى التفكير، بالخطأ أو الخطيئة، المقترفة بحق أنفسهم قبل بلدهم، واستمرار شراء بضائع الاحتلال.
رمضان "توف"، تبغي عقد اشتباك قيمي وأخلاقي بين البضاعة الإسرائيلية ومستهلكها، المواجهة مع الذات في شهر رمضان، شهر العبادات والكرم، شهر البذخ في الاستهلاك والتأمل والعبادة.. وبشكل مباشر، تستقصد حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية الربط بين الدين والدنيا، واستدراج التفكير والنقاش والمنازلة بين التناقضات والمفارقات.
الخطاب مقنع وجدي ومقاصده وغاياته الوطنية مفهومة، لا غبار على الوسيلة؛ فالعبرة في نتائجها القيمية. ومن حق الحملات، والواجب الوطني يقتضي مخاطبة المجتمع انطلاقا من ثقافاته الجمعية، الدينية والوطنية. وهو خطاب واضح وجريء، حين يضع الصائم في مواجهة مع نفسه وتناقضاته وانفصامه عن الواقع. في سياق الحجج والذرائع الواهية للمعترضين أو المستهترين في المقاطعة، أو رمي كرة رفض المقاطعة على الاتفاقات وعاقديها وعلى الجهات الرسمية المسؤولة، ليس دفاعاً عنها، فالحق بيِّن والباطل بيِّن، بل لتبيان الخطوط الفاصلة بين كلمات الحق في انتقاد الاتفاقات الاقتصادية ومقاومتها ومعارضتها ومواجهتها علنا، وبين كلمات الباطل باتخاذها ذريعة وسببا لاستهلاك البضاعة الإسرائيلية.
يطرح خطاب المقاطعة في السياق الرمضاني الانفصام الحاصل والمرئي على أكثر من صعيد؛ سعي الصائم في الشهر الفضيل تنظيف روحه من أخطائها وزلاتها؛ ومواصلته استهلاك بضائع أعداء الوطن والقضية.
خطاب حملات المقاطعة الرمضاني يضع الصائم أمام المرآة، ليرى على سطحها مروحة مصطلحات المقاطعة من الزاوية الدينية وتدرجاتها. ليختار الصائم أين يضع نفسه وماذا يصنف ما يواصل الإقدام عليه: خطأ، خطيئة، جنحة، إثم أم فضيحة قيمية، في شهر يتعبد فيه الصائمون ويتوحدون لتحقيق الانسجام مع عقيدتهم ونظمهم وقيمهم الأخلاقية.
خطاب المقاطعة الرمضاني، يضع مقاربة بين الثقافة الدينية وممارسة شعائرها ودلالاتها، التي أصابها الشكلانية والسطحية كما أصاب في مقتل القيم والمُثُل الأخرى. ويحاول الربط بين ما هو ديني ودنيوي بوعي. وتوظيف الخلطة، الدينية الدنيوية، لتحقيق هدف توسيع نطاق المقاطعة وانتشارها وربما تجذرها.
تقول الحملات أننا استوردنا من دولة الاحتلال في العام 2013 بقيمة 3.7 مليار دولار، أي ما يعادل 71.6% من إجمالي الواردات. من إسرائيل وأن بإمكاننا مقاطعة ما قيمته 2 مليار دولار بسهولة، أي ما يعادل نسبة (53%) من حجم الواردات، جميعها من المواد الغذائية المتوفر بدائلها المحلية والعربية والأجنبية، وبما يؤكد أن مقاطعتها ستعود بالفائدة من مصدرين. أولها إلحاق الخسائر بالعدوّ، والثاني: توفير فرص عمل تقدّرها الحملات بنحو 70 ألف فرصة عمل ناتجة عن احتياج توسيع طاقة المصانع. أما الأهم فهو ربح البعد القيمي المقاوم، والأخلاقي والإرادوي والثقة بالذات والانسجام مع الواقع والبيئة. السؤال هل تجدي هذه المعلومات في دفع الفكرة للأمام، وهل ينتظرها المستهلك ليندفع نحوها..!
في ختام المرافعة، لماذا تحتاج حملات المقاطعة لكل هذا من أجل إقناع المواطن بمقاطعة بضائع عدوه، لماذا لا بد من إسناد الفكرة بالاستعانة بالاحتلال أو الاستقواء بالدين، من أجل تحقيق المقاطعة الجزئية على صعيد الاستهلاك الغذائي. سؤال حواري بامتياز علينا التوجه إليه مباشرة بشجاعة، ضمن الأطر الجماهيرية والإعلامية والقنوات المفتوحة، دعونا نفتح الأبواب والنوافذ أمام الحقيقة دون وجل أو تحفظ.
إنه أسلوب إحراجي من بدايته، ومطلوب الاستمرار في المواجهة والإحراج حتى النهاية لتأسيس ثقافة المقاومة بالمقاطعة، حتى لا نجد أنفسنا دائماً، ندور في إطار المواسم والمناسبات التي لا تحقق الديمومة والاستدامة والتأصيل.
لماذا تكون الفكرة أصغر من الآلية، وهل سيفي الخطاب الديني الإحراجي ما لم يحققه الخطاب الوطني.. سنرى ذلك، نحن شعب التجارب الذي يبحثون عن حجر "الدومينو" المطلوب دفعه ليتحقق من بعده الاستنهاض!.