تصادف هذه الأيام الذكرى التاسعة لما سمّته حركة حماس "الحسم العسكري"، وما اعتبرته السلطة "انقلاباً"، ومهما كانت التسمية؛ فهي فرصة لإعادة النظر بهذه الخطوة التي افتتحت عصراً فلسطينياً جديداً عنوانه الانقسام، ولتقييم التجربة بمنظار اللحظة الراهنة.. وللإجابة على سؤال مهم: هل كانت "حماس" مضطرة لتقوم بما قامت به، أم إن ذلك كله كان جزءاً من مخطط مدروس بعناية؟!
منذ فوزها بالانتخابات، بدأت "حماس" في غزة تتصرف بمعزل عن الضفة، كما لو أنها كيان مستقل، وأخذت تثبت وجودها على أرض الواقع، وتفرض سلطتها بالاستعراضات العسكرية، وتشكيل القوة التنفيذية، ثم صعّدت من حملتها الإعلامية على السلطة؛ فبدأها خالد مشعل من دمشق، حين قال: إن مسؤولي "فتح" وكوادرها سرقوا كل شيء من الوزارات حتى الكنبايات والشاي والقهوة.. ثم استمرت بالتحريض بالتصريحات الإعلامية، ومن خلال المساجد..
قبيل الأحداث المؤسفة التي أدت للانقسام، بدأت ماكينة "حماس" الإعلامية تمهّد للخطوة المقبلة، وتروّج لبعض المصطلحات التي ساقتها كمبرر "للحسم العسكري"؛ مثل "فرق الموت"، و"التيار الدحلاني"، ومؤامرات "فتح" على "حماس"... ثم حرضت جماهيرها، وعبأتهم بفكرة مفادها بأن هناك مخططات للانقلاب على "حماس"، وإفشالها، وبأن على "حماس" أن تدافع عن نفسها، وعن مشروعها، باعتبار أنها فازت في الانتخابات، ومن حقها تولي السلطة، وأنها صارت هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني..
في تلك الفترة توترت الأجواء بين "فتح" و"حماس"، وشهد القطاع اشتباكات متفرقة بين الطرفين، واتهمت "فتح" "حماس" بتنفيذها سلسلة اغتيالات بحق قيادات فتحاوية، ورغم أن "حماس" لم تعترف بها، إلا أن تورطها باغتيال العقيد محمد غريب، والعميد جاد تايه كان واضحا. ثم قامت "حماس" بمهاجمة العديد من مقرات الأجهزة الأمنية، وقصفت معسكر قريش التابع لقوات الـ17، ما أدى لمقتل العشرات، واستمرت هجماتها وصولا للهجوم الكبير والمنظم، الذي حسم الصراع لصالحها.
تسلسل الأحداث، ووصولها إلى هذه النتيجة اعتبر مراقبون (خاصة من "فتح") أنه لم يأت مصادفة، إنما كان ضمن مشروع "حماس" للاستيلاء على السلطة، وفقا لمخطط مدروس، تم تنفيذه تدريجيا بخطوات متلاحقة ومستمرة؛ بل إنه أتى في إطار مخطط إقليمي أشمل؛ حيث إن إقصاء السلطة عن غزة، واستبدالها بسلطة "حماس" يعتبر تغييرا مهما في الخارطة الأمنية والسياسية للمنطقة، له تأثيره المباشر على إسرائيل، وعلى معادلات الصراع القائمة، ومستقبل التسوية.. وبالتالي لا يمكن لحدث بهذا الحجم أن يمر دون موافقة إسرائيلية، ودون دعم دولي إقليمي.. إسرائيل المستفيد الأول منه، لأنه سيؤدي لانقسام الكيانية الفلسطينية وتقسيم الشعب الفلسطيني جغرافيا وسياسيا، لذلك غضت الطرف عنه.. الدول التي ورطت "حماس" وشجعتها على هذه المغامرة، وأعطتها الضمانات المالية والسياسية لنجاحها، كانت تريد الإمساك بالورقة الفلسطينية لتقوية أدوارها الإقليمية، ومكانتها في معادلات الصراع.. وهي لعبة مكشوفة تحاول سورية وإيران لعبها منذ زمن طويل.
في المقابل، دلّت ردود فعل السلطة حينها على حالة تخبط وارتباك غير عادية في صفوف كافة الأجهزة الأمنية والمدنية، لدرجة أن أفراد الأجهزة الأمنية كانوا يتصرفون بردات فعل عشوائية متباينة، منهم من دافع عن موقعه، ومنهم من انسحب، ومنهم من وقف على الحياد، وجميعهم تصرفوا كمن أُخذ على حين غرة، ما أكد على عدم وجود أي تعليمات لدى أي جهاز، حتى الرئاسة وقيادة "فتح" في الضفة كانت مرتبكة ومشلولة.. فمنطقيا، وجود خطة ومؤامرة يقتضي وجود تعليمات معينة للعناصر والقيادات.. ولكن هذا لا يعني أبدا أن "فتح" والسلطة كانت بريئة تماما..
وحتى لو افترضنا جدلا وجود مخطط لدحلان بإقصاء "حماس"، اليوم لا لوجود لدحلان في غزة، فما الذي يمنع "حماس" من التراجع عن خطوتها!؟ طالما أن المبرر الذي قدمته لحسمها العسكري لم يعد موجودا!! والأهم من ذلك، أن "حماس" كانت ترى كل مرة نتائج خطواتها وأثرها السلبي على القضية الفلسطينية وعلى المصالح اليومية للشعب الفلسطيني، خاصة في غزة، منذ أن استأثرت بتشكيل الحكومة لوحدها، وإلى أن استفردت بسيطرتها على القطاع، وما جلبه ذلك من حصار، وعزلة، وعقوبات، وحروب، وانقسام، وتراجع في مكانة القضية الفلسطينية.. ومع ذلك ظلت "حماس" ماضية في مشروعها، ومتمسكة بسلطتها، غير آبهة بمعاناة شعبها، وبكل ما سبق..
كان عليها أن تدرك قبل إقدامها على هذه المغامرة أن طبيعة السلطة واتفاقياتها والوضع الإقليمي والدولي لا تسمح لها بالتفرد بالحكم؟ وإذا تفردت به فإنها ستكون أمام وضع غاية في الصعوبة، وأنها ستجر الشعب معها إلى هذه المغامرة العقيمة؟ إلا إذا قامت بخطوتها دون حسابات استراتيجية!؟
بعد تسع سنوات من الانقسام، على "حماس" إجراء مراجعة جذرية شاملة لما أقدمت عليه، وعليها أن تجيب بشجاعة وصراحة على الأسئلة المطروحة من الشارع؛ لماذا لم تلتزم "حماس" ببرنامجها الانتخابي الذي حددته لنفسها في إطار التغيير والإصلاح ومكافحة الفساد، وتكتفي بدور المعارضة الوطنية؟! لماذا لم تُشرك الأطراف الوطنية الأخرى في حكومتها، واستمرت بنهج الاستئثار والإقصاء؟! لماذا تراجعت عن اتفاق مكة الذي جاء كخشبة خلاص لها وللحركة الوطنية عموما؟!
اليوم، وبعد تجربة مريرة من الانقسام والتفرد بالحكم، على "حماس" التطلع لمصالح الشعب والقضية الفلسطينية، والعودة عن الانقسام؛ وغير ذلك، فإنها تبرهن على أنها مجرد حركة تتبع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وتقدم مصالحها على المصالح الوطنية، وتثبت أنها مستعدة لتنفيذ أجندات خارجية على حساب مصلحة الوطن، مقابل استمرار تدفق الأموال عليها.
وعليها أن تعي حجم المأزق الذي وضعت نفسها فيه، وأن تدرك أنه لا يمكن إدارة سلطة قائمة على أساس اتفاقيات تتعارض معها ومع تكوينها، وأن أكلاف مشروعها باهظة جدا، ليس عليها، بل على الشعب الفلسطيني، وتحديدا سكان القطاع؛ الذين عانوا سنوات صعبة من الحصار والحرمان من السفر، وانقطاع الكهرباء، والبطالة والفقر والبؤس، خاصة بعد أن تبين لها أن هذا القطاع يعيش ويتنفس فقط من خلال السلطة (التي طردتها).. وبعد أن تبين لها طبيعة الخصوم والأعداء، والحلفاء الذين يتاجرون بها وبالقضية..
وعليها أن تدرك أن مشروعها الأحادي كان خطأً منذ البداية، وأنه اصطدم بالجدار، وليس لها إلا العودة لأحضان الشعب، وإنهاء الانقسام، والسماح بإجراء انتخابات عامة تعيد الكرة إلى ملعب الجماهير..
ومن غير المقبول أن تكتفي "حماس" بعد كل هذا بتوجيه أصابع الاتهام، والحديث عن مؤامرات داخلية وخارجية، والتنصل من مسؤولياتها، والتهرب من تشخيص السبب الحقيقي للأزمة..
الوضع الفلسطيني بأكمله كان ضعيفا ومترهلا وبائسا، بيد أن الانقسام زاد من ضعفه وبؤسه، وأعاده سنوات للخلف.