منذ عامين بالضبط، وتحديداً بعد صلاة ظهر الإثنين في السابع عشر من حزيران 2014 صعدتُ مشياً من ساحة جامع كفرعين شمال رام الله، باتجاه تله مرتفعة تحتجز مقبرة البلدة لعلها تقترب بشواهد الغائبين إلى حافة السماء. كنتُ أستعيدُ تحت شمس حارقة تاريخ طاهر فقير يتمدد بصمت في نعش خشبي بسيط فوق أكتاف رفاقه الفقراء، قبل أن أستمع إلى كلمات رثاء كثفت مسيرة الغائب الحاضر. إختصر نجله حازم ببلاغة مسيرة والده وكفاحه الشاق، وأسرت كلمته الصادقة قلوب المشيعين؛ كلمة كثفت كفاح عشرين عاماً من حياة والده المناضل خضر العالم في سجون بريطانيا والأردن وإسرائيل.
شاهد الزنازين
الكاتب فؤاد خرمة حرر مذكرات خضر العالم، وأعدها ووضعها تحت عنوان (عشرون عاماً في سجون الطغاة). صدرت الطبعة الأولى للكتاب عام2011 وكشف صاحب المذكرات سر الإهداء للأبناء والبنات: أمل، حازم، ناظم، كوثر وشاكر: "لأنهم تحملوا أثناء طفولتهم الفقر والجوع وضحوا رغماً عنهم لحرمانهم حنان الأب في غيابي". تضمنت المقدمة رغبة الكاتب بأن "تصبح هذه التجربة الغنية والحافلة بالصمود والتضحية والصبر شاهداً يستفاد منه ومثالا يحتذى به في معركتنا ضد الاحتلال" مستعرضاً فلسفة المواجهة مع السجّان وتداعياتها وأختتم: "تجربة العالم غنية بالدروس والعبر، وتقدم فلسفة حياة مبنية على تفاعل واقعي مع الأحداث"..كيف لَمَعت في الصفحات المشرقة سيرة المناضل الراحل؟
كتاتيب البلدة
ولد خضر العالم البرغوثي في كفرعين سنة1928، وتعلم في كتاتيب شيخ القرية نمر الرفاعي باعتبارها الخيار الوحيد المتاح أمام الفقراء لمحو الأمية، والتقاط قواعد التعليم الأساسي. التحق سنة 1937 في مدرسة دير غسانة المجاورة، لكنه غادر مقاعد الصف الثالث ابتدائي متجاوزاً رغبة والده باستكمال التعليم، والتحق يافعاً بمجموعة خاله عبد الحميد أبو خرمة؛ عقب اطلاق سراحه من سجن المسكوبية بعد قضاء 15 سنة بتهمة القتل على خلفية ثأر عائلي.
حمل خضر بندقية خاله يوم 13 شباط1944، واتجه إلى جبل كفر توت جنوب البلدة، وصادف مرور دورية للاحتلال الانجليزي في المنطقة. طلب ضابط الدورية منه التوقف فأطلق النار باتجاه الجنود الذين لاذوا بالفرار. اعتقل، ونُقل إلى زنازين سجن رام الله وتعرض إلى ضرب مبرح دون أن يعترف بأية تهمة. قضى خمسة أشهر في المعتقل قبل أن يحكم بالسجن الفعلي ست سنوات، لكونه دون السن القانوني، ويرحل إلى سجن المسكوبية في القدس.
تعرف أواسط تموز1944 في المسكوبية على بعض قادة ثورة1936 وكان من أبرزهم سعيد شقير، يحيى علان، فؤاد أسعد حمد وعقاب فالح، وتواصل مع مجموعة من أسرى الثورة المحكومين بالمؤبد، وتعلم منهم مزيداً من القراءة والكتابة وفلسفة المقاومة.
تأثر بالمناضل والمعتقل السياسي أمين بشارة من الناصرة، أحد أبرز كوادر عصبة التحرر الوطني، الذي كان يتسلم شهرياً مجلة (الغد) لسان حال المثقفين العرب، وبعد أن يفرغ بشارة من قراءة نصوصها يسلمها لرفيقه في الغرفة خضر، ليقرأ موادها مراراً دون ملل، ويتابع عبر تقاريرها انتصارات الجيش الأحمر السوفياتي على الجيش النازي الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) قبل أن يحتفظ بأعدادها على رف خشبي صغير فوق رأسه، ليكتشف أن بشارة والغد عبدا طريقه إلى عصبة التحرر الوطني.
نقل سنة1945 إلى معتقل نورشمس بجوار مدينة طولكرم. كانت إدارة المعتقل تفرض على الأسرى العمل في المحاجر الملاصقة للسجن، وتوزعهم في أعلى الجبل لزرع الديناميت في الصخور وتفجيرها، وتعبئة الحجارة الصغيرة قبل نقلها في عربات القطار ليستخدمها الجيش البريطاني.
من السجن إلى الجبهة
سَردت المذكرات تفاصيل الحجز القاسي للأسرى في معتقل نورشمس وقسوة السجّان تحت إشراف الضباط الإنجليز، وتنظيم اضراب مفتوح عن الطعام إثر استشهاد معتقل من الخليل عقب إجباره على العمل في أعلى الجبل؛ رغم تدهور وضعه الصحي حيث لفظ أنفاسه الأخيرة، وتناولت وقائع محاولة هروب خضر مع أسيرين من السجن سنة1946، لينقل يوم 14 تشرين ثاني 1947 إلى سجن نابلس القديم؛ تمهيداً للافراج عنه عقب صدور قرار تقسيم فلسطين، وتوجه بريطانيا لانهاء الانتداب، ودعم اقامة كيان لليهود.
مع اندلاع الحرب إثر رفض قرار التقسيم، شارك خضر في معارك منطقة يافا على محوري المنشية والعجمي، تحت قيادة المسؤول العسكري حسني بدّار ومرجعية حسن سلامة، ودبت الفوضى بين المواطنين مطلع شهر نيسان عقب مغادرة رئيس وأعضاء مجلس بلدي يافا إلى الأردن. تلقى في أيار تعليمات القائد محمود أبو الخير بالانتقال مع مجموعته المسلحة للقتال في محور الرملة، وشاركت المجموعة في تطهير معسكر تل تفنسكي المجاور لبلدة بيت نبالا.
عقب النكبة تم إلحاق الضفة الغربية بالأردن وقطاع غزة بمصر، وانخرط خضر في صفوف الحزب الشيوعي الأردني الذي تأسس مطلع أيار1951 بقيادة فؤاد نصار. انتظم في صفوف الحزب بتأثير راجح السلفيتي وسليمان النجاب، عندما تعرف على النجاب بعد فصله من وظيفة التعليم في مدرسة بلدة كوبر؛ بذريعة مشاركته مع وفد الأحزاب الشيوعية العربية في مصر، سوريا، العراق والأردن بزيارة الصين الشعبية وجمهورية بولندا.
أجرى الأردن في تشرين أول1954 انتخابات برلمانية، ولم يتمكن مرشحو المعارضة من الفوز بمقاعد رام الله عندما دعمت الحكومة الأردنية فوز ثلاثة مرشحين. خرج أنصار الحزب الشيوعي بتظاهرة احتجاجية، وشكلت هبة تشرين جبهة وطنية للاعتراض على نتائج الانتخابات، ونجحت بفرض انتخابات جديدة سنة1956.
فاز الشيوعيان فائق ورّاد بمقعد رام الله ويعقوب زيادين بمقعد القدس، وفاز أيضا باسناد الحزب الشيوعي عبد الخالق يغمور من الخليل، عبد القادر الصالح من نابلس، كمال ناصر وعبدالله الريماوي من رام الله، وحصد الحزب الوطني الاشتراكي بزعامة سليمان النابلسي ستة عشر مقعداً. ترأس النابلسي الحكومة، لكنها أقيلت في نيسان1957 بعد خمسة أشهر على تشكيلها، فاندلعت الاحتجاجات، وشارك خضر في التظاهرات الشعبية، وبات مطلوباً لأجهزة الأمن الأردني.
اعتقل في تشرين ثاني1957 على حاجز تفتيش، وأصدرت محكمة الزرقاء شرقي الأردن حكماً بسجنه 18 عاماً ونقل إلى سجن عمان المركزي، ثم معتقل الجفر على بعد 300 كيلومتر شرقي عمان. تعرض سنة1959 لضرب عنيف من حرس السجن أصاب إحدى عينيه بنزيف مستمر، وظل دون عناية صحية حتى فقد البصر فيها نهائياً، فارتدى نظارة سوداء منحته بصمة مميزة؛ لم تفارق ملامحه الدقيقة الطيبة الهادئة حتى الرمق الأخير.
أصدر الملك حسين في نيسان1965 قراراً بالافراج عن المعتقلين، وتحرر خضر شرط الالتزام بقيّد إجباري في البلدة. داهمت قوات الأمن الأردنية حفل زفافه البسيط عام1966 بذريعة كسر القيد الاجباري، واضطر للاختفاء والالتقاء بعروسه في ظروف سرية معقدة، وعاش مع زوجته بظروف مالية قاسية، وتجاهل حزبي، وعزلة سياسية، في سقيفة متواضعة من الحجارة، وربما ظل الكادر الوحيد في الحزب الشيوعي المطلوب للمخابرات الأردنية حتى هزيمة حزيران1967.
كفاح ومواجهة
اعترض خضر نزوح الأهالي خوفاً من بطش الاحتلال، وشرح مخاطر تكرار الهجرة الفلسطينية، ثم انخرط في العمل النقابي، وأعاد افتتاح نقابة عمال البناء والمؤسسات، أقدم الاحتلال على اعتقال قيادة النقابة قبل ابعادها إلى الأردن. اعتقل مطلع العام1971 وخضع للتحقيق في سجن رام الله بتهمة مساعدة الفدائيين. أنكر التهمة وقضى سنة في الاعتقال الاداري قبل الافراج عنه، شرط أن يحضر كل صباح إلى مركز شرطة رام الله لاثبات الحضور! اضطر خضر (أبو حازم) للاقامة في البيرة مؤقتاً مع زوجته وأطفاله الثلاثة لتسهيل أمر وصوله إلى مركز الشرطة صباحاً.
في نيسان1974 اعتقل مجدداً على خلفية نشاطه السري في الجبهة الوطنية التي تشكلت في الضفة الغربية المحتلة خلال آب1973، وتعرض طوال ثلاثة أشهر لتحقيق قاسِ في سجون رام الله، بيت لحم، صرفند، الجلمة، كفاريونا ونابلس القديم. أنكر التهمة وأعتقل ادارياً مدة أربع سنوات قبل الافراج عنه في العاشر من كانون ثاني1978. تفرغ حزبياً وتكلف من حزب الشعب الفلسطيني، بعد اعادة تشكيله مطلع الثمانينات بزعامة بشير البرغوثي، بمتابعة العمل الجماهيري، وصمد ربع قرن في لجنة الاغاثة الزراعية، اتحاد المزارعين، لجان الأطباء، وترأس اللجنة العليا للدفاع عن الأراضي، وواجه الاعتقال الأخير سنة1989 بعد تجاوزه الستين، ونقل من حاجز عطارة العسكري إلى خيمة للأسرى ملاصقة لمعتقل رام الله، ثم نقل إلى معتقل الظاهرية ومكث فيه شهراً قبل الافراج عنه.
رحل خضر العالم البرغوثي (أبو حازم) في السادس عشر من حزيران2014 عن ست وثمانين عاماً؛ فقيراً نظيفاً طاهراً، دون أرصدة بنوك وبلا رتب مزيفة، وظل حتى الرمق الأخير وفياً لمبادئ الاشتراكية وحقوق العمال والكادحين، ومقاوماً عنيداً للاستغلال. تمدد الجسد منذ عامين في مقبرة بلدته كفرعين؛ لتنهض المواقف فوق مشهد الغياب: رفَضَ التطبيع والتمويل، تَجَنب شغف السلطة والمناصب، وتَمسَك بكفاح مستمر لينتزع حقوق الفقراء، ويضمن حرية الشعب واستقلال الوطن.