سقوط أمم وقيم

طلال عوكل
حجم الخط

لم تكن الجمعية العامة للأمم المتحدة مخطئة، أو أعضاؤها غائبون عن الوعي حين اتخذوا قراراً العام 1974، يقرن بين الصهيونية والعنصرية، إذ لم يكن ضرورياً انتظار الوقت الذي تعلن فيه إسرائيل عن نفسها على أنها بالممارسة وبالتشريع دولة عنصرية، بعد أن تأكد عَبر التاريخ أنها دولة ارهاب.
بكل الأسف وافق الفلسطينيون بعد اوسلو على اقتراح بشطب ذلك القرار، في محاولة جادة لتأكيد رغبتهم في تحقيق سلام يؤدي إلى استرجاع بعض الحقوق التي أقرتها لهم الأمم المتحدة.
اليوم تعود الأمم المتحدة، لتأكيد صورتها ودورها السلبي طالما تهيمن عليها الولايات المتحدة، حين تتخذ الجمعية العامة قراراً بأغلبية مئة وسبعة أصوات، بتعيين داني دانون ممثل إسرائيل الدائم في الأمم المتحدة، رئيساً للجنة القانونية.
الترشيح تقدمت به «مجموعة أوروبا الغربية وآخرون» وأهم أعضائها، الدول التي نفذت مؤامرة سايكس بيكو العام 1916، وتطوعت بالباع والذراع لخلق ودعم المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
لم تكن عملية الخلق تلك، وما تلاها من تكريس قوة الدول الاستعمارية الغربية لحماية إسرائيل، لم يكن ذلك مستنداً إلى أية قيم أخلاقية، بقدر ما كان ذلك جزءاً من استراتيجيات استعمارية تستهدف السيطرة والهيمنة على مقدرات المنطقة، ومنعها من النهوض.
التصويت الذي شهدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنح إسرائيل فرصة لم تحققها أو تحلم بها منذ قيامها العام 1948، يقدم شهادة تتواصل اليوم والغد مع الأمس، حتى لو أن ذلك سيلحق إساءة خطيرة بالأمم المتحدة ودورها.
كيف يمكن لأي إنسان أن يقبل أو يتفهم قراراً بإسناد رئاسة لجنة مهمة من بين ست لجان محيطة بالجمعية العامة، لدولة كما يقول الممثل الدائم لدولة الكويت ونيابة عن المجموعة الإسلامية «دولة تنتهك القواعد الأساسية للقانون الدولي والمعاهدات الدولية وقرارات الأمم المتحدة..»؟ في تعليق على معايير تولي رئاسة هذه اللجنة يقول العتيبي: «إن ذلك يتطلب ان تكون الدولة المرشحة عضوا ممثلا للقانون الدولي وتعمل على تنفيذ قرارات الامم المتحدة بشكل فعال وليس دولة تخرق القانون الدولي والقانون الدولي الانساني وقرارات الامم المتحدة».
لو أن أحداً تطوّع بإجراء بحث حول أكثر الدول التي تنتهك القوانين والقرارات الدولية، جهاراً نهاراً، وتتصرف إزاءها كدولة خارجة عن القانون فإنه لن يجد مثيلاً لإسرائيل.
لسنا نحن الفلسطينيين فقط من يتهمون إسرائيل بانتهاك القوانين والقرارات الدولية، بل إن حلفاءها الذين رشحوها، والذين دعموا ترشيحها يصرحون بين الحين والآخر، بأن الاستيطان غير شرعي ويخالف قرارات الأمم المتحدة ويشكل عقبة أمام تحقيق السلام.
ونتساءل كم من التقارير والتحقيقات التي أجرتها مؤسسات دولية محترمة، أشارت إلى انتهاكات ترتكبها إسرائيل، وشبهات حول جرائم حرب.
حتى «هيومان رايتس ووتش» الأميركية وهي من أضلاع السياسة الأميركية، طالبت مؤخراً المدعية العامة للجنائية الدولية، بالمباشرة، بالتحقيق في شبهة ارتكاب إسرائيل جرائم حرب.
أي أخلاق أو قيم تسمح لدول تعتبر نفسها حارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقيم الحرية والعدالة، بأن تصوت لصالح قرار معيب كهذا، لصالح دولة بدأ بعض رجالاتها يتململون بسبب تزايد الممارسات الفاشية والعنصرية؟
كيف يمكن لفرنسا، صاحبة المبادرة لإحياء عملية السلام، وهي عضو فعّال في مجموعة «غرب أوروبا وآخرين»، أن تتوقع نجاح مبادرتها، فيما هي تشارك في إنجاح مثل هذا القرار؟
المؤسف أنه بينما كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تتداول في مسألة ترشيحه إسرائيل لهذا المنصب الحسّاس، كان الإرهاب يضرب مجدداً في الولايات المتحدة ويسقط أكثر من مئة بين قتيل وجريح، ويضرب مجدداً في فرنسا، فيودي بحياة شرطي وزوجته.
أبعد هذا يحق للدولة الداعمة للارهاب الإسرائيلي وهو أسوأ أنواع وأشكال الارهاب بما أنه ارهاب دولة، كيف لهؤلاء أن يتساءلوا عن جذور الارهاب وأسبابه، وخالقيه وداعميه؟ لم يكن اكتشافاً ما أشار له مندوب فلسطين الدائم في الأمم المتحدة السفير رياض منصور حين قال إن الولايات المتحدة وظّفت كل طاقاتها وقدراتها في الضغط لإنجاح القرار عَبر إجبار العديد من الدول ضعيفة الإمكانيات للتصويت.
لو أن مؤسسة محترمة وتتمتع بالنزاهة والموضوعية أجرت استفتاءً دولياً حول أهم الدول الراعية للارهاب والمستفيدة منه، فإنني أتوقع أن تأتي النتائج لتشير بوضوح إلى الولايات المتحدة الأميركية.
لا بدّ أن خيبة أمل عميقة تصيب كل صاحب ضمير حي، ذلك أن التصرف المنطقي يقتضي من فرنسا والدول الداعمة لمبادرتها أن تتخذ إجراءات عقابية ضاغطة على إسرائيل التي ترفض تلك المبادرة وتعطل الجهود الدولية من أجل تحقيق السلام.
بدلاً من ذلك تقتفي فرنسا، سلوك الولايات المتحدة في التعامل مع السياسات الإسرائيلية المخالفة حيث تغدق عليها المنح والعطايا كلما تطرّفت أكثر وكلما وجهت إهانات اكثر لحلفائها.
مع ذلك فإن سياسة الإغراءات لن تفلح في استمالة السياسة الإسرائيلية التي تجد في تمردها فرصاً أخرى لتحقيق المزيد من الدعم والمزيد من الإنجازات لمشروعها التوسعي الاستعماري.