الانقلاب الذي كسر ظهر الشعب

د. عبد المجيد سويلم
حجم الخط

ذا كانت النوايا صادقة في فهم حقيقة وأبعاد ونتائج الانقلاب الذي أقدمت عليه حركة حماس قبل ما يزيد على ثماني سنوات كاملة مكتملة، فإن دخول الانقلاب نفسه في سنته التاسعة هو الدليل على أنه لم يكن انقلاباً استباقياً، ولم يكن ردود أفعال وتداعيات على أحداث داخلية، ولم يكن مجرّد حسم عسكري في معركة طارئة.
المضحك المبكي أن الكثيرين من الحريصين على إنهاء نتائج هذا الانقلاب والذين بُحّت أصواتهم من كثرة وشدة مناشداتهم ليس لديهم «اليوم» حتى مجرد إجراء مراجعة أو تقييم لحقيقة ذلك الانقلاب، ولأبعاده والأخطار التي انطوى عليها، والدمار الكبير الذي ألحقه بالمشروع الوطني وبالأهداف الوطنية من جهة، والتهشيم الذي أحدثه في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشعب الفلسطيني من جهة أخرى.
وحجة هؤلاء أن مراجعة من هذا النوع لم يعد لها من أهمية عملية وهي ـ أي المراجعة ـ لن «تقدم» ولا بقيد أنملة شيئاً لإنهاء الانقسام واستعادة وحدة الشعب والأرض والقضية كما كانت قبل الانقلاب على الأقل.
نحن هنا نتحدث عن الحريصين على إنهاء الانقسام وربما يكونون في غاية الإخلاص لهذا الهدف، وقد يكونون، أيضاً، أكثر الناس «تفهُّماً» للدمار الذي ألحقه الانقلاب بالبنية الوطنية الفلسطينية بكل مكوناتها وتعبيراتها وتجلياتها.
أما «المتحارصون» على إنهاء الانقسام وهم كثر، فإنه لا فائدة ترجى أصلاً من حوارهم، لأنهم في الواقع يكرسون النتائج التي أدى إليها الانقلاب على الرغم من التباكي الدائم و»العويل» على مصير القضية والوطن.
وجوهر الأمر هنا هو أن الصدق والإخلاص لإنهاء الدمار الذي أحدثه الانقلاب لن يفيد كثيراً في جوهر القضية إذا لم يتم هذا الإخلاص وهذا الصدق في المراجعة والتقييم أولاً وقبل كل شيء.
كيف ولماذا؟
الأمر بسيط وواضح على الرغم مما يبدو عليه وكأنه في غاية التشابك والتعقيد.
فلو كان الانقلاب مجرد ردود أفعال على أحداث داخلية كما يزعم القائمون عليه، ولو كانت المسألة مجرّد حسم عسكري في معركةٍ طارئة لما تأسّس على هذا الانقلاب كل ما تأسّس، ولما فشلت كل محاولات رأب الصدع، ولما تحوّلت المسألة من مجرّد انقسام إلى بحث لاهث إلى حالة انفصال. ولو كان الأمر يتعلق بمجرّد «ضربة استباقية» لما جرى رهن القطاع والقضية برمتها للتجاذبات الإقليمية، ولما تحوّل القطاع إلى مرتعٍ للتطرف، ولما أصبح أمره كله بيد عدة مندوبين ساميين من منطقة الإقليم، ولما زُجّ به في سوق العطاءات السياسية كما هو حاله اليوم.
ولو كانت المسألة «بالسذاجة» التي يقدمها أصحاب مشروع الانقلاب وأهله ورعاته وحُماته لما تمّ تجويع أهلنا في قطاع غزة وتعريضهم لكل هذا الحصار وهذه الحروب وكل هذه المآسي.
لو أن الأمر بهذه «السذاجة» لتم التراجع عن هذا الدمار، ولتمّ التخلّي عنه مبكراً، وربما لتمّ إنهاء الانقسام منذ زمنٍ بعيد.
أما وإن الأمر غير ذلك إن لم نقل على النقيض من ذلك فإن الانقسام يتعزّز كل يوم ويتحوّل إلى حالة انفصال لا ينقصها سوى الإعلان الرسمي، وتتم بصورة حثيثة ولاهثة عملية مستمرة لمأسسة الانفصال وليس مأسسة الانقسام، لأن مأسسة الانقسام أصبحت خلفنا لمن يريد أن يرى بعينيه هو وليس بعيون «الآخرين».
الحقيقة هي أن قرار الانقلاب هو قرار إقليمي بأدوات محلية شاركت في التمهيد له كل من إسرائيل وبعض البلدان الإقليمية منها ما هو كبير ومنها ما يكاد لا يُرى بالعين المجرّدة، وأعدت الأدوات وفق خطة جهنمية لإجهاض المشروع الوطني.
فقد تم لإسرائيل سلخ كتلة ديموغرافية ضخمة عن الجسم الفلسطيني، وتم «إخراجها» من المعادلة الديموغرافية في إطار ما يُسمّى بالقنبلة الديموغرافية، وتم هذا السلخ بهدف تحويل مشروع الدولة الفلسطينية إلى دولة فقيرة ومحاصرة و»إرهابية» تقع في كل وقت تحت طائلة التدمير والتجويع في منطقة القطاع وباتجاه الحدود مع مصر كعبء إضافي، وكمنطقة لابتزاز مصر ومُقدَّراتها في حالة إن كان النظام فيها على خلاف مع هذا التوجه، أو رضوخه لهذه الخطة في حالة عدم التعارض معها.
والحقيقة أن إسرائيل قد اضطرت إلى الكشف عن هذه الخطة عندما أقدم شارون عليها بوعيٍ وتصميمٍ وترصُّد. أما جماعة الإخوان المسلمين فقد كانت من أشدّ أنصار الانقلاب لتكون منطقة القطاع قاعدة عسكرية متقدمة لهم، خصوصاً وأنهم كانوا يعدون العدة لدورهم القادم، وفي ضوء ما كانوا قد وصلوا إليه من توافقات مبدئية مع الولايات المتحدة بوساطة إقليمية أصبحت اليوم معروفة، ولن يطول الوقت لكشف كل أسرار هذه «الطبخة».
ولو كانت المسألة على غير هذا النحو لما زَجَّت حركة حماس بنفسها في معاداة مصر والانخراط في معركة الإخوان المسلمين ضد الدولة المصرية، ولما قامت بما قامت به من استفزازات واستعراضات كان لها أسوأ الوقع على الدولة المصرية.
ولو كانت المسألة على غير النحو الذي أُشير إليه لما اختلقت حركة حماس عند كل مفصل ومنعطف على طريق إنهاء الانقسام الذرائع تلو الذرائع والحجج تلو الحجج والتنصُّل تلو التنصُّل للهروب من مطلب إنهاء الانقسام.
إذاً أهمية المراجعة والإخلاص لإنهاء الانقسام هما في الواقع وجهان لعملةٍ واحدة، وهذا هو بالضبط النقص الأهم والمثلب الرئيس في كل محاولات المخلصين فعلاً لقضية استعادة الوحدة وإنهاء نتائج هذا الانقلاب الأسود والمدمِّر.
والحركة الوطنية الفلسطينية اليوم لن تدخل أبداً في مرحلة إنهاء الانقسام إلاّ عَبر تصفية مرحلة الانقسام، وكل تصفية مع مرحلة على هذه الدرجة من الخطورة والأهمية هي الموقف من الانقلاب باعتباره خطيئة كبرى وواحدة من الكبائر السياسية التي أقدمت عليها حركة حماس، وبذلك فقط نستعيد حركة حماس إلى الصفوف الموحدة وبذلك فقط ننقذ حركة حماس من اللعبة التي وقعت فيها أو تم الإيقاع بها.