من هوليوود.. العالم يعيد اكتشاف “جلال الرومي”

thumb (1)
حجم الخط

من هوليوود، عاصمة السحر والصورة، تتوجه أنظار الملايين بشغف وأمنيات متصاعدة إلى استديوهاتها على أمل أن تشهد تحضيرات لفيلم عالمي مرتقب عن الشخصية الصوفية الأسطورية جلال الدين الرومي (604-672هـ) صاحب «المثنوي» و«الغزليات» و«المختارات» وغيرها من روائع الشعر الإنساني على مر العصور.
لم تعد تلك الرغبة التي تتحرك في نفوس الملايين من عشاق المتصوف الأشهر، محض أمنية بعيدة أو وهما نائيا عن التحقق، بعدما انتشرت قبل أيام أخبار عن عزم كاتب السيناريو والمخرج السينمائي الشهير “ديفيد فرانزوني” إخراج فيلم عن جلال الدين الرومي، مرشح لبطولته النجم العالمي ليوناردو دي كابريو، وبحسب تصريحات صحفية، تداولتها العديد من وكالات الأنباء والصحف العالمية، فإن منتجي الفيلم يأملون البدء بالتصوير مطلع العام المقبل.
بدا، إذن، أن جاذبية الرومي المغناطيسية المتجاوز للقرون قد طالت فرانزوني الذي أخرج فيلم (المصارع) وحصد عنه جائزة الأوسكار، ودفعته دفعا إلى زيارة تركيا برفقة ستيفن جويل براون، أحد المنتجين، للقاء خبراء ومختصين بشعر وحياة جلال الدين الرومي، وكذلك زيارة ضريحه المقدس بين أتباع الطريقة المولوية، وكذلك أماكن عيشه في قونية.

لكن هذه الجاذبية الممتدة منذ قرون طويلة قد اكتسبت قوة وانتشارا في السنوات الخمس الأخيرة، بعد النجاح الساحق الذي حققته رواية «قواعد العشق الأربعون» للتركية إليف شافاق، وترجمتها إلى عشرات اللغات وطباعة نسخها بالملايين. الرواية التي ترجمت إلى العربية في 2012 وحققت انتشارا واسعا وصارت من الروايات الأكثر مبيعا في العالم العربي وبلدان الشرق الأوسط عموما، كانت استهلالا لموجة “تسونامي” لإعادة اكتشاف وقراءة جلال الدين الرومي، تلك الشخصية الفريدة في تاريخ التصوف الإسلامي خاصة والفكر الروحي الإنساني بصفة عامة. عشرات الكتب التي صدرت لتتناول جانبا أو أكثر من سيرة حياته أو تجربته الروحية أو أعماله الأدبية، وخاصة شعره الغزلي وآراءه في العشق الإلهي وبما تميزت به نظرته من رحابة وإنسانية تجاوزت نطاقها المحلي والإقليمي وتعالت على النزعات العرقية والطائفية والمذهبية. صار اسم “جلال الدين الرومي” من أكثر الأسماء المستخدمة على محرك البحث العالمي جوجل في السنوات الأخيرة ودون أن تنحسر هذه الشعبية أو يقل هذا الاهتمام.
مثل ثوب درويش يدور على نغمات الناي، ترتسم الصورة الذهنية الشهيرة لأتباع الطريقة المولوية، أتباع ومريدي الشيخ العالم الفقيه جلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر الميلادي (ولد عام 1207)، أحد أهم وأكبر شخصيات التصوف الإسلامي على الإطلاق، وأعظم صوفية المشرق بلا منازع، وكذلك أهم من تحدثوا عن “وحدة الوجود” و”العشق الإلهي” و”الفناء في المحبوب” في جميع الأزمنة والعصور، بدأ الرومي فقيها جلس على بساط الفتوى في قونية إحدى مدن تركيا بآسيا الصغرى، ولد لأبوين من أصول فارسية ويتحدثان بها وكتب ديوانه الشهير «المثنوي» بالفارسية (صدرت ترجمته الكاملة بتوقيع المرحوم إبراهيم الدسوقي شتا في ستة مجلدات عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة)، وكان مسقط رأسه في مدينة بلخ في خراسان بأفغانستان حاليا.

الطريف، أنه وبسبب مساعي إيران وتركيا لتسجيل ديوان «المثنوي» للرومي ضمن تراثهما الثقافي المشترك في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، فإن أفغانستان قد أعلنت غضبها ورفضها هذه المساعي، واحتجت أفغانستان أمام اليونسكو قائلة إن الرومي ولد في أفغانستان منذ أكثر من ثمانية قرون. ولأن الرومي عدّ قطبٌ من أقطاب التّصوف الإسلامي، وإليه تُنسب الطريقة المولوية، وإن كان لا يخصّ طريقة دون أخرى بخطابه وتعاليمه، باعتباره إنساناً كونياً يتجاوز كل الطرق والبناءات المذهبية والدينية، وكذلك الأعراق؛ فقد تنازعه أهل إيران والأفغان باعتبار أصله البلخي، ولسان ديوانه ومثنويه الفارسية، والأتراك باعتبار مقامه في قونية، والعرب باعتباره إرثاً إسلاميّا.
وكان والد الرومي يعرف بلقب “سلطان العلماء”، وعندما كان جلال الدين في سن المراهقة فرّت أسرته من بلخ بسبب الغزو المغولي، وانتقلت عبر بغداد ومكة ودمشق قبل أن تستقر في قونية في تركيا عندما كان الرومي في الرابعة والعشرين. كانت نقطة التحول الحاسمة في حياته تلك التي تجسدت في لقائه بذلك المتصوف الغامض والشيخ الجوال الذي ظهر كالبرق الخاطف وومض برهة في حياة جلال الدين الرومي، ثم اختفى فجأة وبسرعة خاطفة أيضًا، ولكن بعد أن ترك جلال الدين على حالٍ غير التي كان عليها وبعد أن فتح له الباب أمام عالم آخر من المعرفة والذوق وفجّر فيه كل هذه الينابيع المتدفقة من المحبة الصادقة والحماسة الجارفة والشوق العارم والتحرق للقاء المحبوب، ويجعله يعبر عن كل ذلك في إبداعات رائقة خالدة.

نقطة التحول الكبرى ولحظة التغيير الفاصلة في حياة الرومي، إذن، كانت عندما التقى بالدرويش المتجول، والحكيم العاشق والشيخ الصوفي “شمس الدين التبريزي”، الذي صار منذ تعرف عليه ملازما له ومريدا على يديه، وأشرق في قلب الرومي نور الحب، وانطلق لسانه بالشعر، وتعلم الرقصة السماوية الدائرية، وأصبح رسولا من رسل الصوفية، وناطقا باسم العشق. تغيّر جلال الرومي عندما وجد شمس، قرينه والمرآة التي شاهد فيها روحه، لم يعد الرومي مجرد فقيه، أصبح شاعراً، تعلم الرقصة السماوية، المعراج الحركي الذي يجسد خفة الروح وانطلاقها، صار ترجماناً للحب والعشق.
وغيّر شمس الدين التبريزي مجرى حياة تلميذه الرومي إلى الأبد (تتلمذ الرومي على يد التبريزي لمدة ثلاث سنوات متتالية)، وبدأت تجربته الروحية الثرية في البحث عن الحكمة والوصول إلى جوهر الحب والعشق منذ هذه اللحظة، وشهد تاريخ الإنسانية تسطير واحدة من أروع تجارب التصوف والفن والإبداع على الإطلاق. رحلة روحية هائلة تجعل متلقيها يعيد تعريف الأشياء، حكايات تشبه المرايا التي نرى فيها أنفسنا، تحريض لذيذ على أن تكتشف كنزاً بداخلنا اسمه القلب، مفتاحه العشق، وحدوده السماء.

ومن الواضح بالطبع أن تأثيرات شمس الدين في الرومي لم تكن علمية بقدر ما كانت روحية الطابع والتأثير والإنتاج، وأن عبقرية جلال الدين لم تتحقق لأنه أتى بالجديد الذي لم يطرق في ميدان التصوف، بل لأنه عبر عن تجاربه ومواجده ومطارحاته بوجد رهيف وذوبان في العشق ولغة شعرية يندر مثيلها.
من أعظم أعماله ديوان غزلياته الذي سماه باسم أستاذه «ديوان شمس الدين التبريزي»، أو الديوان الكبير، ويسمى أيضا ديوان العشق، العشق بكل أحواله وصروفه العشق الحافل بالوجد والجنون والموسيقى والفكر الروحي السامي. وهذا الديوان الجليل الذي يحتوي بين دفتيه على اثنين وستين ألف بيت من الشعر يعد من أعظم ما ألف في التصوف الإسلامي كله.