يحدث في غزة ان تسمع "حواديث" كثيرة عن الهدنة طويلة الأمد وعن الهدنة قصيرة الأمد، ثم تواصل تحديقك في الفراغ كأن الأمر يتعلق بمكان آخر غير اللذي تعيش فيه. ثم تتذكر أن الأمر يتعلق بك وبحياتك. ثم تسمع تأكيداً ثم نفياً. وتصبح الهدنة المرتقبة إحدى علامات ساعة النصر وفق تصريح يتسرب مع فحيح خافت في جهاز الراديو. الهدنة تعني غزة وحدها. الوطن الكبير الذي أكله المشروع الاستعماري وقضمه قطعة قطعة، بات بفضل الإنقسام قطعتين لا تتسعان في الأصل للقليل من أحلامنا، ولا تتسعا لشهوة الحكم ونزوة الملك. حواديث الهدنة ونفيها وتأكيدها تعني غزة وحدها، تعني أننا أصبحنا بلاداً أخرى، وشعباً آخر. الهدنة تتعلق بجزء منك. كيف يمكن لهدنة أن تتم في غزة فقط. لاحظ كيف كان الحديث خلال العدوان الاخير على غزة وفي العدوانين السابقين أيضاً يتم فقط عن غزة. كأن الأمر لا يتعلق بفلسطين أو كأن فلسطين تم اختزالها في غزة. الهدنة المرتقبة ليست فقط وقفاً للنيران ولا تهدئة للجبهة والاشتباك، بل هي أيضاً تثبيت لواقع جديد تكون فيه غزة منفصلة بشكل كامل عن الضفة الغربية، كل يواجه مصيره وحيداً. ويحدث أن يعني البعض حين يقولون الميناء والمطار ميناء ومطار غزة وليسا ميناء ومطار فلسطين. ويحدث أن كل شيء يتم مركزته وفق المصالح الحزبية الضيقة حتى يصار إلى تغير كلمة وطن ووطنية أيضاً.
ويحدث أيضاً أن يتم إعلاء كلمة غزة على كلمة فلسطين. فغزة المحاصرة أما الضفة الغربية فلا، وغزة التي تعاني أما غيرها من أمكان تواجد الشعب الفلسطيني فلا. وكأن أحداً لا يتذكر أن ياسر عرفات استشهد وهو محاصر، وأن الضفة الغربية محاصرة أيضاً وأن القدس ليست محاصرة بل تعاني حصاراً وتهويداً وترويعاً لا يمكن وصفهم. غزة وحدها من تقف بصلافة في وجه المحتل أما الأخرون فلا. تتذكرون الرسوم المشينة التي قام بنشرها أحد الهواة المتطرفين بحق المناضلات في الضفة الغربية في استهزاء مشين ببطولات المنتفضين. ويحدث أن تجد أيضاً وبلا رادع من يدافع عن كل ذلك.
ويحدث في غزة أن تسمع سياسياً يتفوه بكلمات يخجل القاموس أن يحتويها بحق الشهداء والقادة ولا تعرف خير من يقصد هذا حين يقول ذلك. بل تسأل نفسك إذا كان الرجل فعلاً يريد الخير لأحد. فقط حين يهان الشهداء ويُبخس حقهم عليك ان تعيد حساباتك أن أحداً ما يريد لهذا الإنقسام أن يدوم حتى يوم القيامة. ويحدث أن لا تجد رجلاً رشيداً يقول بجرأة إن الرجل مخطيء وأن الشعب تعود على مثل هذه الأصوات النشاز. يحدث أن الرجل الرشيد يغيب عن الحياة، ويحدث أن الشهداء في قبورهم يلعنوننا وهم ينظرون إلى حالنا ولكن يحدث أن يظل هناك من يريد أن يمتهنهم ويقض مضاجعهم الهادئة في الفردوس.
ويحدث أن يحاول البعض أن يختصر فلسطين في غزة. في لحظة تاريخية لم يبق من فلسطين إلا غزة وتحديداً بعد النكبة وضياع فلسطين وضم الأردن للضفة الغربية ظل الشيء الوحيد على الخارطة الذي يشير إلى كلمة فلسطين هو هذا الشريط الصغير جنوب الشاطيء الفلسطيني بطول 42 كيلومتراً والمسمى قطاع غزة. لم يكن شيء في الواقع السياسي يشير إلى فلسطين إلا قطاع غزة. حافظت غزة على وجود كلمة فلسطين في التداول الواقعي وفي الجغرافية الحية. غزة أبقت على فلسطين. وفيها كان المجلس التشريعي وكانت جلسات المجلس الوطني والاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين. فيها شيء تبقى من فلسطين. ويحدث الآن أن يتم اختزال فلسطين في غزة بحيث لا شيء خارج غزة يشير لفلسطين، ولا شيء اسمه فلسطين بل غزة. ويحدث أن تضيع فلسطين تحت بساطير الإنقسام والاقتتال والاحتراب. ففي اللحظة التي حدث فيها الانقلاب في حزيران 2007 وما نتج عنه من انقسام بغيض لم يبق في الدم الفلسطيني نقطة لم تمسها نجاسة اللحظة، صار كل شيء محرم محلل. وصارم من السهل تخيل كيف يتم مركزة كل شيء في غزة. ثمة احتكار مريع للحقيقة، احتكار لمفهوم النضال ونفي للتاريخ وتزوير للواقع. والأهم من ذلك عجز شديد عن محاولة تجاوز اللحظة وإنهاء المأساة. أما الشهداء والأسرى وعذابات الجرحي فلم تعد تعني إلا القلة القليلة القابضة على الجمر.
ويحدث في غزة أن تذهب الوفود وتعود الوفود وتأتي وفود آخرى ثم تغادر، ويكون المفقود في كل تلك الزيارات والحوارات التي يقوم بها المتحاورون هو الغاية الأساسية المزعومة ورائها: المصالحة. ويحدث أن الجلبة التي يثيرها وقع أقدام المتحاروين في الممرات تؤكد أن الأمر ليس جدياً. ضحكاتهم امام الكاميرا، النبرة المتحولة في حديثهم من الغضب الشديد إلى التفاؤل المفرط، مصافحاتهم المصطنعة في التلفاز، كلها تشير إلى أن الأمر ليس جدياً تماماً. ويحدث أن يقول لك الرجل في الطاولة المجاورة في المقهى أن محادثات الدوحة قد فشلت اليوم فتسأل وهل كان ثمة محادثات. ويضحك بدوره: "بخبرك في المرة الجاي لم يرجعوا يتحاوروا كمان مرة".
ويحدث في غزة أن ترى كل ذلك وتظن نفسك في كابوس لا ينتهي حيث لا يتغير شيء. نفس الحديث الذي تجريه مع نفسك أجريته قبل أعوام وقد تجريه بعد اعوام قادمة، كأن الزمن لا يتيغر إلإ أن الأشياء تزداد قدماً، والتفاصيل تصبح أكثر تشويشاً. ويحدث أن تتمنى لو أنك لا تفكر في كل ذلك وأن تضع رأسك جانباً وتعطل حواسك وتنقطع عن العالم. أو أن عجلة الزمن تتوقف حتى لا تزداد الأمور سوءاً. ويحدث أنك تقول كل ذلك وتتمني ان لا يكون صحيحاً. وان الواقع أفضل مما تتخيل: مثلاً المعابر مفتوحة، الوحدة الوطنية محققة لكنك لا ترى، لا يوجد فقر ولا بطالة ولا شجع تجار ولا شيء، والوطن بخير لكنك متشائم أكثر من اللازم. ويحدث أن كل هذا لا يحدث.
ويحدث أيضاً أن يتم إعلاء كلمة غزة على كلمة فلسطين. فغزة المحاصرة أما الضفة الغربية فلا، وغزة التي تعاني أما غيرها من أمكان تواجد الشعب الفلسطيني فلا. وكأن أحداً لا يتذكر أن ياسر عرفات استشهد وهو محاصر، وأن الضفة الغربية محاصرة أيضاً وأن القدس ليست محاصرة بل تعاني حصاراً وتهويداً وترويعاً لا يمكن وصفهم. غزة وحدها من تقف بصلافة في وجه المحتل أما الأخرون فلا. تتذكرون الرسوم المشينة التي قام بنشرها أحد الهواة المتطرفين بحق المناضلات في الضفة الغربية في استهزاء مشين ببطولات المنتفضين. ويحدث أن تجد أيضاً وبلا رادع من يدافع عن كل ذلك.
ويحدث في غزة أن تسمع سياسياً يتفوه بكلمات يخجل القاموس أن يحتويها بحق الشهداء والقادة ولا تعرف خير من يقصد هذا حين يقول ذلك. بل تسأل نفسك إذا كان الرجل فعلاً يريد الخير لأحد. فقط حين يهان الشهداء ويُبخس حقهم عليك ان تعيد حساباتك أن أحداً ما يريد لهذا الإنقسام أن يدوم حتى يوم القيامة. ويحدث أن لا تجد رجلاً رشيداً يقول بجرأة إن الرجل مخطيء وأن الشعب تعود على مثل هذه الأصوات النشاز. يحدث أن الرجل الرشيد يغيب عن الحياة، ويحدث أن الشهداء في قبورهم يلعنوننا وهم ينظرون إلى حالنا ولكن يحدث أن يظل هناك من يريد أن يمتهنهم ويقض مضاجعهم الهادئة في الفردوس.
ويحدث أن يحاول البعض أن يختصر فلسطين في غزة. في لحظة تاريخية لم يبق من فلسطين إلا غزة وتحديداً بعد النكبة وضياع فلسطين وضم الأردن للضفة الغربية ظل الشيء الوحيد على الخارطة الذي يشير إلى كلمة فلسطين هو هذا الشريط الصغير جنوب الشاطيء الفلسطيني بطول 42 كيلومتراً والمسمى قطاع غزة. لم يكن شيء في الواقع السياسي يشير إلى فلسطين إلا قطاع غزة. حافظت غزة على وجود كلمة فلسطين في التداول الواقعي وفي الجغرافية الحية. غزة أبقت على فلسطين. وفيها كان المجلس التشريعي وكانت جلسات المجلس الوطني والاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين. فيها شيء تبقى من فلسطين. ويحدث الآن أن يتم اختزال فلسطين في غزة بحيث لا شيء خارج غزة يشير لفلسطين، ولا شيء اسمه فلسطين بل غزة. ويحدث أن تضيع فلسطين تحت بساطير الإنقسام والاقتتال والاحتراب. ففي اللحظة التي حدث فيها الانقلاب في حزيران 2007 وما نتج عنه من انقسام بغيض لم يبق في الدم الفلسطيني نقطة لم تمسها نجاسة اللحظة، صار كل شيء محرم محلل. وصارم من السهل تخيل كيف يتم مركزة كل شيء في غزة. ثمة احتكار مريع للحقيقة، احتكار لمفهوم النضال ونفي للتاريخ وتزوير للواقع. والأهم من ذلك عجز شديد عن محاولة تجاوز اللحظة وإنهاء المأساة. أما الشهداء والأسرى وعذابات الجرحي فلم تعد تعني إلا القلة القليلة القابضة على الجمر.
ويحدث في غزة أن تذهب الوفود وتعود الوفود وتأتي وفود آخرى ثم تغادر، ويكون المفقود في كل تلك الزيارات والحوارات التي يقوم بها المتحاورون هو الغاية الأساسية المزعومة ورائها: المصالحة. ويحدث أن الجلبة التي يثيرها وقع أقدام المتحاروين في الممرات تؤكد أن الأمر ليس جدياً. ضحكاتهم امام الكاميرا، النبرة المتحولة في حديثهم من الغضب الشديد إلى التفاؤل المفرط، مصافحاتهم المصطنعة في التلفاز، كلها تشير إلى أن الأمر ليس جدياً تماماً. ويحدث أن يقول لك الرجل في الطاولة المجاورة في المقهى أن محادثات الدوحة قد فشلت اليوم فتسأل وهل كان ثمة محادثات. ويضحك بدوره: "بخبرك في المرة الجاي لم يرجعوا يتحاوروا كمان مرة".
ويحدث في غزة أن ترى كل ذلك وتظن نفسك في كابوس لا ينتهي حيث لا يتغير شيء. نفس الحديث الذي تجريه مع نفسك أجريته قبل أعوام وقد تجريه بعد اعوام قادمة، كأن الزمن لا يتيغر إلإ أن الأشياء تزداد قدماً، والتفاصيل تصبح أكثر تشويشاً. ويحدث أن تتمنى لو أنك لا تفكر في كل ذلك وأن تضع رأسك جانباً وتعطل حواسك وتنقطع عن العالم. أو أن عجلة الزمن تتوقف حتى لا تزداد الأمور سوءاً. ويحدث أنك تقول كل ذلك وتتمني ان لا يكون صحيحاً. وان الواقع أفضل مما تتخيل: مثلاً المعابر مفتوحة، الوحدة الوطنية محققة لكنك لا ترى، لا يوجد فقر ولا بطالة ولا شجع تجار ولا شيء، والوطن بخير لكنك متشائم أكثر من اللازم. ويحدث أن كل هذا لا يحدث.