كلما هلت علينا ذكرى سواءً كانت عزيزة أو أليمة؛ تسارعت أقلامنا وانبرت للكتابة عنها وانطلقت ألسنتنا للحديث حولها وهتفت قلوبنا وصدحت حناجرنا لها، ونعود اليوم لنقف أمام ذات الذكرى ذكرى الإنقلاب الدموي السيئ الصيت وما أحدثه من انقسام مرير، "ذكرى ظلم ذوي القربى والذي هو في أشد مضاضته على النفس من وقع الحسام المهند".
لعلنا نتذكر جميعاً تلك الأيام المشئومة يوم أن جثم الإنقسام البغيض فوق صدورنا "وأرخى بسدوله وتمطى بصلبه وأردف إعجازاً وناء بكلكل" بفعل ما أحدثه الإنقلاب الأسود ومشاهده الدموية الأليمة على مسرح الإقتتال وأعواد المشانق والمقاصل المجنونة التى انتصبت، وما خلفه من خسائر بشرية ومادية جمى وانهيارات كبيرة على مستوى المنظومة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، حتى وضع الإنقلاب أوزاره وحسم الأمر والحمد لله؛ وحط الإنقسام البغيض في ديارنا سنوات عجاف ولم يزل إلى ما شاء الله وإلى أن يقضي أمراً كان مفعولا، وما انفكت رحى الطاحونة تدور لا نغنم منها سوى ضجيجها وذاكرة الملح الذي صبغ الأرض وسبر أغوار مرحلة حملت في ثنايها وجع الذكريات وسنين الألم.
لقد اجتزنا حالة دق الخزان وولجنا جدار الشمس نتلمس قرصها الحامي الوطيس نداعب نسيج أشعتها ؛بحثا عن طوق النجاة والخلاص والإنعتاق، وافترشت موائدنا لتتمدد طولا وعرضا وامتلأت أطباقها بما لذ وطاب من هرج ومرج وتداول وصولات وجولات ودقت أقداحنا إيذاناً بإحتساء نخب الجدال والسجال وتأويل مفردات اللغة دون البحث في قاموس المعاني عن كلمة سر الوطن المفقود ببين الكلمات المتقاطعة، نتجاذب أطراف الحديث المنمق ونرتدي الحلل الأنيقة؛ فعجت موسوعة جينتس بأرقام جولات التباري على كبح قوابس الأمل واختزال التاريخ من خلال قذف العصي في عجلة الزمن وتسابقنا إلى "سود الصحائف لا بيض الصفائح وما جلونا الشك والريب".
دعونا نتسائل: لماذا يستهوينا الحديث والجدل البيزنطي الطويل المطول خلف الكواليس المبهمة وأمام الفضاءات البراقة؟ ولماذا يأسرنا الوقت حتى وإن كلفنا ذلك ردحاً من الزمن ونغرق في التفاصيل؛ بحثا عن تفاصيلها وتفصيلاتها التى مللناها وسئمناها ؟ ولم لا ننقض على زماننا الغابر ننفض عنه الغبار المر بحوار يفضي إلى خواتيم مسك خيراً من عذب الكلام الناعم؟ ألم يستغرق آمري الإنقسام في حينه دقائق معدودات أو يزيد لإعطاء الأمر في الإنقلاب ليصار إلى ما صار بنا؟! ألم يستغرق حسم تلك المعركة قرابة خمسة أيام ليفرد الإنقسام جناحيه ويخيم الظلام ظلام الإنقسام العام تلو العام؟! إنها لمفارقة لافتة فيما بين الطيب والخبيث؛ علينا أن نبحث في جوانبها عن طيب يشطب المرار من حلوقنا وينهي هذا الفصل السيء لا أن نمضي بالخبث لإشباع جنبات الحوار السقيم وما يحمله من سكون ورتابة، أم أنه "ما ناديت إذ أسمعت حيا ولا حياة لمن تنادي" ؟!
لا نقلل من شأن الحوار ولا من أهمية دور الأقلام التي تنبش بالحبر وبالرصاص في سفر الذكرى وتقرع ناقوس الأيام، لكننا سئمنا الترقب والإنتظار وما برئت جراحنا من بلسم الكلام وما أشفى غليلنا الخطب الصماء الجوفاء ترياق الحوار العقيم وأنتم تطلون علينا برؤوسكم في كل عام؛ تنكؤون جراحنا وتقلبون علينا وجع خريف الذكريات الأليمة؛ فتعود قلوبنا تنزف من جديد وتدمع عيوننا، لا نجني غير لهيب هذه الذكريات المريرة، فيا ويلنا من كل إطلالة ذكرى تعتصر فيها أفئدتنا حتى أصبحنا مجرد ذكرى عابرة ككتاب مصفوف في مكتبة بين الكتب القديمة أكل عليه الدهر وشرب كلما جاء ميعاده نفضنا عنه الغبار؛ ليتطاير ويذر في عيوننا ثم يهاجر إلى مستقر له.
إن ما نخشاه أن تصبح هذه الذكرى تقليداً ترفع فيه مجالس الندب والنحيب والبكاء والعويل والتباكي، أو أن نكون قد تأقلمنا مع هذا الواقع الصعب الذي فرضه الإنقسام، بل بتنا نبحث عن آليات لإدارته والتكيف معه، ونسينا أو تناسينا آهات الجرحى وآنات الثكلى وعذابات المقهورين والمكلومين والطوابير الطويلة من أبناء شعبنا التي لا عدد لها، هي لا تقف أمام المصارف والبنوك على رأس كل شهر لنحصي تغدادها لكنها تمثل الأغلبية الصامتة وربما ستكون الساحقة يوم أن تسحق كل من استمرأ الإستهتار والإستخفاف بها يوما بعد يوم، فهي قنابل موقوتة ستلقح أعمق الجبهات عاجلا أم آجلا بعدما وسينزع الفتيل حتما لا محالة.
ونعود لنشكركم على رأس كل ذكرى في كل عام من أعوام الإنقسام المر على استحضاركم لنا وقرع طبول آلامنا ونكئ جراحاتنا بحفنة ملح بعضا من الوقت ثم تجاهرون بالرحيل إلى ملتقى آخر في عام آخر وذكرى أخرى تعاود خلالها أقلامكم تنطلق من أدراجكم لتصدح حناجركم مجدداً؛ ولتغرد وتخط في صحفكم من دموعنا ونزفنا ابداعا يزين صفحاتكم الرائعة.
رفقا بنا رفقا يا سدنة الإنقسام وحماته، أما أنتم يا كل هؤلاء من الكتاب والهواة من كتبتة "الكيبوردات" وزوار المناسبات، لا تنسوا أن تزورونا كل سنة مرة وبصحبتكم باقة من حفنة ملح وطبول وحناجر وأقلام وباقة من الصحف التي تزدان بها موائد الحوار وطيب أطباقها وقدح نخب كؤوسها وشكر الله سعيكم.
قبل خمسة أعوام؛ وما أشبه اليوم بالبارحة!