الولاء والبراء، والتترّس

عبد الغني سلامة
حجم الخط
قضيتا «الولاء» و»البراء» من أخطر القضايا التي ترتكز عليها أيديولوجية الجماعات الأصولية المتشددة، لأنهما تقومان على التعصب والعنصرية وتدعوان للكراهية والعدوان، حتى أن كثيرا من أحزاب الإسلام السياسي نبذت هذين المبدأين، ورفضتهما باعتبار أنهما من مخلفات عصر الإنحطاط، وإن كان هذا الرفض على المستوى الإعلامي؛ إلا أن ممارساتها في بعض الأحيان تنطلق من هذين المبدأين.
في كتابه «ملة إبراهيم» عرَّف «أبو محمد المقدسي»، وهو أبرز منظري الجماعات الأصولية، الولاء والبراء بأنهما: «وجوب موالاة المسلم الملتزم، وعدم جواز البراءة الكلية منه إذا أقدم على معصية، مع وجوب البراءة من معاصيه.. وحرمة موالاة الكافر أو نُصْرَتِه على المسلمين، أو إطْلاعه على عوراتهم.. ووجوب البراءة منه وبُغْضِهِ وعدم جواز موادته».
أي أنه يجب على المسلم أن يعلن ولاءه وتضامنه مع أخيه المسلم بغض النظر عمّا يكون عليه، وهذا الكلام يبدو للوهلة الأولى جميلا، ولكن مع متابعة الجملة سنجد أن شرط الولاء للمسلم هو أن يكون ملتزماً، الأمر الذي سيدخلنا في دوامة تعريف الإلتزام وحدوده ودرجاته، ومن له الحق في الحكم على صحته.. ثم نجد صراحة الدعوة للبراءة من معاصي المسلم الملتزم، فأي ممارسة من قبل الآخر قد تُحسب على أنها معصية، ليكون الإجراء المترتب عليها هو التبرؤ من صاحبها بالنتيجة، ويستكمل « المقدسي « قوله بالدعوة للبراءة بشكل صريح وواضح من «الكافر» مهما كان هذا الكافر. 
أما مؤسس الوهابية «ابن عبد الوهاب» فيضع قاعدتين لفهمه للدين؛ لا نختلف مع القاعدة الأولى التي تدعو لوحدانية الله، بينما نختلف مع الثانية، لأنها تدعو لتكفير كل من لا ينطبق عليه شرطه في تعريفه للتوحيد أو الشرك، ثم التحريض عليه والتغليظ في معاداته.
الجذور الأولى لهذه الأفكار تعود لـ»ابن تيمية» وتلميذه «ابن القيم»؛ الذي لم يكتفِ بإعلان البراءة ممن اعتبرهم كفارا؛ بل طالب بمعاداتهم والمجاهرة بهذا العداء، ثم أضاف على ذلك حديثا «ابن العتيق»، الذي أكد على تقديم العداوة على البغضاء، بمعنى أنه لم يكتف بكُرْهِ الآخر الذي يُكَفِّرُه، بل دعا قبل ذلك للتعبير عن هذا الكُرْه بالعداوة، وأصرّ على أنه يجب أن تكون هذه العداوة بيّـنة ظاهرة وليست فقط في النفوس؛ بل لا بد للسيوف أن تترجمها. 
أي أن هؤلاء المشايخ لا يكتفون بالدعوة للكره والبغضاء وإطلاق أسوأ ما في النفس البشرية، بل يدعون صراحة لإظهار هذا الكُــرْه! والسؤال هو: كيف يكون إظهار الكُـره والبغضاء والتعبير عن العداوة؟؟ وهل هنالك طريقة أخرى لا تُستخدم فيها السيوف والحراب أو المتفجرات، تماشيا مع التطور التكنولوجي؟! وهل هنالك ما هو أبلغ وأوضح من هذه الدعوة للحقد والقتل والإقصاء والعدوان؟
ويعود «أبو محمد المقدسي» للتأكيد على ما قاله معلمه «ابن عبد الوهاب»: «فمعاداة أهل الحق للباطل وأهله، ومفارقتهم لهم قضية قديمة جدا، فرضها الله على آدم منذ أن أرسله للأرض، وشاءها الله قدراً وشرعاً ليتميز أولياؤه من أعدائه، والخبيث من الطيّب». أي تصنيف الناس إلى فسطاطين على أساس الدين، وبمواصفات المقدسي.
وقد نسي هؤلاء أن الرسول كان يتواصل مع قومه «الكفار»، وكان يزور أهل الكتاب ويعود مرضاهم، وأنه أقام مع اليهــود في المدينة تحـــالفا منذ وصـــوله إليها، وأن الله تعالى قال: *وَلا تُجَادِلُـوا أَهْـلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالّتي هِيَ أَحْسَنْ*، *وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَ النّاسِ مَوَدّةً لِلّذينَ آمَنُوا النّصَارَى*؛ إلا أن السلفيين يدعون للقطيعة الكاملة مع العالم الآخر، والسؤال هو: كيف تكون رسالة الإسلام لكل البشر إذا قاطع المسلمون بقية العالم، وعادوهم وجاهروا بعدائهم، وكرهوهم وعبروا عن كرههم، وبغضوهم وأظهروا بغضهم، وكفروهم ودعوا لقتالهم!!
واستكمالا لمبدأ «التكفير والهجرة»، و»جاهلية المجتمعات المسلمة» اعتبر «المقدسي» أن كافة مؤسسات الدولة (أي دولة عربية أو إسلامية) وأنظمتها وقوانينها ودستورها وبرلمانها وحكوماتها وأحزابها.. إنما هي الطاغوت والباطل، وأن قياداتها وكوادرها ورموزها هم من الكفرة الذين يتوجب البراء منهم ومعاداتهم...
أما القضية الأخرى والتي لا تقل خطورة عن سابقتيها؛ فهي قضية «التتريس» أو «التترّس»، والتي تعني استباحة قتل المدنيين المسلمين في حالات معينة، لتحقيق مصالح «جهادية»!! وهي من المفاهيم التي تعتمد عليها الجماعات الأصولية في تبرير قتلها للمدنيين الذين يروحون ضحايا التفجيرات العشوائية.
وكان «أبو مصعب الزرقاوي» يبرر قتله المئات من المدنيين العراقيين في أعمال التفجير العشوائية، بقوله: «حِفظ الدين مقدم على حفظ النفس، ودفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص، وقتل المتمترس أقل ضررا من شيوع الكفر».
وهكذا يتضح لنا جانب من الصورة؛ استنادا على الولاء والبراء والتترس تقيم الجماعات الأصولية علاقتها مع الآخر، وبناءً عليها تفهم حرية الإنسان وقيمته، وتعتبرها رخيصة وتافهة، ثم تدعو لتكفير كل من شذ عن قاعدتها، بل وتحرض على كرهه أولاً، ثم إظهار هذا الكره والتعبير عنه بالقتل والإرهاب، ولا تجد غضاضة في ذلك، ولا يرف لها جفن عند مقتل المئات من المدنيين الأبرياء. 
قال تعالى: *وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضْ لَفَسَدَت الأرْضْ*، بمعنى أن الحياة الإنسانية تقوم على مبدأ الإختلاف والتعدد والتباين، والذي هو ضمانة الاستمرار والتطور؛ فلو كان الناس على عقل رجل واحد يتناقل أفكاره من جيل إلى آخر لفسدت الأرض وتوقفت الحياة، ولبقينا متوقفين عند اكتشاف النار أو اختراع الزراعة.. قال تعالى: *وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلّهمْ جَمِيعاً*، إلا أن شيوخ السلفية يريدون فرض رؤاهم على العالمين بقوة السيف وبالبطش والإرهاب، ويعطون لأنفسهم الحق بتكفير الآخرين، وهو الأمر الذي لم يعطه الله لأنبيائه ومرسليه، *إِنّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلكِنَّ اللهَ يَهدي مَنْ يَشاءْ*، إذا كان الأنبياء أنفسهم لا يقدرون أن يهدوا أحدا بالقوة وهم غير مطالبين بذلك؛ فبأي منطق يعطي هؤلاء لأنفسهم الحق بهداية الآخرين أو بعبارة أدق الحق بتكفيرهم؟!