حـنّـا مـقـبـل «لانـد»

حسن البطل
حجم الخط
بين بلدة الطيبة والأغوار طريق التفافي لا يستأهل وادي النار الموصل إلى بيت لحم ان يقف عن يمينه، الا رقم من مرتبة واحدة .. وبعد فاصلة وصفر. على رمية الصدع، او الانهدام، يترنح الطريق، كأنه طفل يحبو، وهلعه يجعله يتشبث بأقدام الجبال. لا توجد في هذه الضفة جبال كالجبال. لكن، التلال، بعد الطيبة - لها قامة الجبال السامقة.   
قطعة أرض تفسر لك تضاريس القمر، كما تفسر لك ماذا تعني عبارة «العرجون القديم». بالمعنى القاموسي لهذا الوصف القرآني، فإنك أمام شيء يشبه ثمرة بلح جف معظم مائها.  
في صبا الربيع، لعلك تشتهي يدك عملاقة لتمر على الكلأ الأشبه بزغب عصافير في وكرها، او الأشبه بزغب العذراوات تحت سن الخامسة عشرة. آنذاك أحسد أسنان الماعز، وبخاصة السخل الصغير، الذي له - في عمره الباكر هذا - عيون تستعير جمالاً من عيون الغزال.  
سائقنا الشاب، الذي يحمل زناراً بنياً في «التايكواندو» لا يخذل جسارته المكتسبة. بيسراه ينزل بنا من هذا العلو، فنخجل - نحن الذين طرقنا جبال لبنان الوعرة - ان نرجوه تعزيز يسراه بيمناه.  
لا نستطيع ان نلوم عماد لأنه قصرّ عن نيل حزام الدان الاول، وانصرف في الانتفاضة الى «ضرب الحجار». شخصيا، صرت أخجل أن أسدي نصائح لشاب في نصف عمري، بينه وبين اولادنا الكبار «فشختين» أو ثلاث من السنوات.  
الواحد منّا لا يندم عن تقصيره في سن عماد، عندما «بطّل» مشواراً كان سيقوده الى شهادة الهندسة.. وأنا «أهدهد» ندمي الخاص، لأن مشواري انتهى بي إلى هذه الصنعة، بدلا من أن يوصلني الى مرتبة الاستاذية في «الجيوبولتيكا».   
من بلدة الطيبة حتى مشارف بطاح الغور، استعيد ما درسته عن «الطيّات» الصخرية، البسيطة منها والمعقدة .. وأحياناً «الاغشية المجرورة «.
مع ذلك، ففي هذه التلال التي ترقص مع الأفق «رقصة السماح» الدمشقية، او «رقصة الدراويش» لا تعدم العين المدربة ان تقنص، هنا وهناك «طبقات مائدية» .. تخال انها ستكون تمام الاستواء المنفرج 180ْ درجة لو وضعت عليها «زيبقاً» كبيرا، كالذي يستخدمه البناؤون استخدامهم لـ «الشاقول» لضبط الزاوية القائمة 90ْ. 
بعض التوسيعات لبعض المنعطفات و»الاكواع» تمنحك فرصة لترى «عظام الأرض» عندما كانت تنام في مستقر البحر .. انها المتعة الفلسفية التي يمنحك اياها مقطع عرضاني لجذع شجرة سمينة، يقولون: «أكل الزمان عليها وشرب» .. لعله أكل على «طبقات مائدية» هنا .. لكنه يستسقي السماء.  
ينطق الصخر بعناصره الاساسية، فتنطق تربة ذلك الصخر بتركيبها الكيميائي .. آنذاك، يحكي النبات بلسان الجيولوجيا لا بلسان المورفولوجيا (علم اشكال الارض). واللغة التي تنطق بها سفوح التلال (التي جعلها التفاوت المورفولوجي من بلدة الطيبة الى اول بطاح الغور أشبه بالجبال) لا تزيد عن كونها صلاة استسقاء دهرية لربيع يكون أكثر ربيعيا من ربيع آخر، فترتدي التلال غلالة خضراء زغبية، فإذا نظرت الى سفح منها تسير عليه قطعان الضأن والسخل، تكاد تسمع ثغاء الشكر ترفعه السفوح الى السماء، لان القطعان كأنها العلامات الموسيقية السبع، والتل أشبه بمفتاح «الصول».  
منذ ان نغادر الطيبة أقول لأصحابي، ها نحن ندخل «حنا مقبل لاند» .. لا لشيء الا لأن نظرة خاطفة الى زاروب يصب في الشارع الرئيسي، تشير لك الى «شارع الشهيد حنا مقبل».  
بالتأكيد، لم يدرس زميلنا حنّا حرفة الصحافة. وشخصياً، لم أكن أعرف انه ولد في «الطيبة «. لكن، الاستدلال المنطقي يكفي برهانا للترجيح، وللقول: ترى كم مرة هبط حنّا مقبل من ذلك الزاروب، وهبط هذا «الطريق الالتفافي» الخرافي الى «قعر العالم» في أريحا؟!  
ألهذا كان حنّا مقبل أحد أهدأ الزملاء المؤسسين لاتحاد الكتّاب الصحافيين الفلسطينيين؟  
يمكن ان حنّا مقبل فهم أسباب انعطافات في الطريق الى الغور (صعوداً او هبوطاً). لكن عند انعطاف سياسي يسمى «السلطة الوطنية « تردد قلم حنا مقبل.
ترك طاولته في مكاتب «فلسطين الثورة» وأفسح المجال لنا لندافع عن «خط السلطة الوطنية» الذي حدسه حنا كثير الاعوجاجات، كما الطريق من الطيبة الى الغور.  
.. او حدس ان ما بقي له من العمر لا يكفيه زادا ليسير في «التفافي» السلطة الوطنية. لكن اصحاب الطريق «المستقيم جداً» من دعاة الثورية العربية الغوغائية، وحراس «الوصاية، والتبعية والاحتواء أطلقوا الرصاص على رأس حنا مقبل في قبرص.  
نمر من الطيبة. نقول: رحمك الله يا زميلنا حنّا، فيقول بهدوء: رافقتكم السلامة.