خيانة الحلم الأوروبيّ

thumbgen (22)
حجم الخط
 

خيانة أحلام الشعوب تأتي دوماً بنهايات غير حميدة، ولو بعد حين.
كان مشروع الاتحاد الأوروبيّ أكثر بكثير من التنسيق الاقتصاديّ الوثيق في السوق الموحّدة. كان حلماً بهويّة مشتركة تعلو على الهويّات الوطنيّة الضيّقة وطموحاً نحو مزيدٍ من الديموقراطيّة. ديموقراطيّة وحريّات عامّة ونموّ لمناطق مهملة تتحقّق من خلال مؤسّسات ما فوق دولتيّة، خاصّة في دولٍ تخرج حديثاً من أنظمة شموليّة عقيمة، من اسبانيا والبرتغال حتّى بولونيا وبلغاريا.
هذا الطموح تمّ تأسيسه كعمليّة بناء تدريجيّة لمعايير ولمؤسسات مشتركة. إلاّ أنّ الجسم التنفيذيّ نما وترعرع بوتيرة أسرع بكثير من المؤسسات التشريعيّة التي يمكن أن تكون رقيباً وحسيباً عليه، إلى الحدّ الذي ظهر فيه التناقض واضحاً بين الشرعيّة الشعبيّة في كلّ بلد وبين السلطة التنفيذيّة الأوروبيّة.
حلّ هذا التناقض لم يكن سهلاً. فأين السبيل مثلاً بين سياسة تنفيذيّة أوروبيّة نيوليبراليّة وبين حكومات منتخبة تريد قطيعة مع بعض هذه السياسات؟ وهل يقبل مواطنون في بلدٍ ما أن تأتي قرارات للمفوضيّة الأوروبيّة، أو حتّى للبرلمان الأوروبي، بأمورٍ تناقض ما يعتبرونه وطنيّاً حسّاساً وجوهريّاً؟
تمثل المخرج الوحيد من هذا التناقض بصياغة دستورٍ أوروبيّ مشترك، يوازن بين السلطات المحليّة والأوروبيّة، التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، يتم التصويت عليه بالاستفتاء العام في كلّ بلدٍ على حدة.
فَشِلَ المجلسُ (الرئاسي) والمفوضيّةُ الأوروبيّان بالتحديد يوم رفض الفرنسيّون ومِن بعدهم الدنماركيّون مشروع الدستور الأوروبي. فتوّقف عرض الدستور للاستفتاء على الشعوب الأخرى. وتوجّه المجلس الأوروبي لإقرار اتفاقيّة ليشبونة، كدستورٍ يتمّ إقراره من قبل السلطات التنفيذيّة مباشرةً.
خيانة الحلم أتت حينها. تعاظم ارتدادها رويداً وريداً، خاصّة عندما أخضع الاتحاد الأوروبيُّ اليونانَ، ذلك البلدَ ذا الرمزيّة الخاصّة تاريخيّاً لناحية أسس الديموقراطيّة، إلى سياسات تقشّف مدمّرة، علماً أنّ مسؤوليّة المفوضيّة الأوروبيّة عن كارثة الدين العام اليوناني كانت بقدر مسؤوليّة الطبقة السياسيّة اليونانيّة كما المصارف الأوروبيّة. فبدا الأمر وكأنّ الاتحاد الأوروبيّ يعاقب الشعب اليونانيّ لأنّه بالضبط أقصى الطبقة السياسيّة الفاسدة عن سدّة الحكم.
فقدان الأمل بالحلم الأوروبي أتى بتصويتٍ من الشعب البريطانيّ وبما يشكّل موجة صدمة من الصعب توقّع تداعياتها. لم يَخَفِ الناخبون الإنكليز من أبعادِ تصويتهم، لا في ما يخصّ اسكتلندا وإيرلندا وشمالها، ولا حتى بمركزهم الماليّ والاقتصاديّ، بل اختاروا أن يستعيدوا ديموقراطيّتهم التي أضحت عنواناً لـ «استقلالهم».
وكما صرّح أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي أثناء حملتهم، بدأت الصدمة الكبرى تأتي من استفاقة الشعوب الأوروبيّة ومن وعيها بأنّ كلّ شيء ممكن... ومن استفاقة مقابلة من الحكومات والبرلمانات مفادها أنّ شيئاً ما يجب أن تفعله هذه الحكومات وهذه البرلمانات لاستعادة الثقة بالحلم، حتّى لو كان أصغر حجماً.
وطبيعيّ أن يخطر بالبال اليوم كيف تقيّم الشعوب العربيّة البناء المشترك المسمّى الجامعة العربيّة. هل مساهمتها اليوم بحجم التحديات التي تعيشها شعوبها؟ بل هل لشعوب البلدان العربيّة رأي في هذا البناء والمآلات التي وصلت إليها؟ وهل خانت الجامعة الحلم الذي كان عربيّاً يوماً ما؟

عن السفير