ألقى نيزكٌ بنفسه وسط شارع ، في قلب المباني وفجّر نفسه، فانتعف كُحل أحزمته البرقيّة، فتشظّي، ونفذ في كل ما حوله، فَنَخَّلَهُ وأدماه وسطَّحهُ ، ودبَّت النار وامتدت، وقيل وصلت إلى شاطىء البحر، فتلقّفها الموج، وحمل قَبَساً منها إلى أعماقه، فأضاء البحرُ وتوهّج، كما تضع شمعة في زجاجة، فيشفّ شعاعها ويتفشّى خارج بلّورها. وتجتمع كائنات البحر حول الشعلة، تؤدّي رقصتها المتّسقة، في طقس مهيب مُرتّب، كأنّ كل تلك الموجودات الحَيّة الرشيقة المنسابة، في حركتها الدائبة، تتمّم لوحة الماء والنار في هذا الجوْف الوسيع الرّخو الهتّاف، وتتقدم مجموعات أسماك مُصطفّة، كأنها سرب مُسَطَّر، من قبس النار، فتتنازعه، أو تأخذ كل سمكة مِزْقة نار، بين زعانقها أو في فمها، وتدفّ بها في عمق البحر، وتدور في رقصة خاطفة سريعة، لترسم دوائر ومربّعات، وتحدثُ أشكالاً نارية على جدران الماء، وتتقاطع الدوائر، وتتداخل الأشكال، فيظهر البحرُ كأن بانوراما متسارعة الضوء تقطّع البحر، من داخله ، بتلك النار.. وشيئاً فشيئاً، تزادد خُطوط النار وتتّسع، وتنفرد وتمتدّ وتتلاقي، ليصبح قاع البحر وقلبه وجنباته طبقاً أسطورياً يترجرج فيه سائل يتّقد أو يحمل ناراً خرافية.. وتتحوّل الأمواج إلى تلافيف لهب تتدحرج من كل الجهات إلى السواحل ..
ويُقال؛ إن القيامة قد قامت! وسرعان ما تصل شواظ النار إلى شجر الغرقد، فيحترق عن آخره، كأنه لم يكن! ويحاول كل فرد أن يختبيء في ملجأ يقيه اللهب، الذي هبّ في الطرقات ودخل إلى نوافذ الأبنية، فيذوب لحم مَنْ اختبأوا فيها ، وساحت أجسامهم وشربتها الأرض، التي تهتّكت وتفلّعت من شدّة الحريق، فيشرد الباقون إلى جهات البلاد، فتمشي وراءهم النار، كأنها مأمورة بملاحقتهم، فتحملهم في هبوبها لتذرّيهم هباء منثوراً ودخاناً قاتماً كثيفاً.. وتأتي النار على كل الحدود فلا تبقى فيها أثراً، حتى تحسب أن الأرض البلقع المشويّة، التي أمامك لم يكن عليها أحدٌ، ولم يقم فوقها بنيان، أو نبت في براريها نبات.
وادلهمّت السماء، واسوَدّت، حتى حسبوا أن دخان الحريق الكوني الذي عفا على كل شيء، وأعاده إلى سيرته الأولى ، هو ما يتجّمع في الأعالي.. لكن البرق المتشعّب، الذي راحت أشجاره المتوهّجة تخطف الأبصار، والرّعد الذي يتقصّف بهزيمهِ المفزع ، هما ما جعل البلد تتهيّأ لمطرٍ ثقيل، سيُلقي بغيْثه الهطّال! وانفتحت السماء، وزَخّت، ودلحت، وسكبت كما لم تفعل من قبل، فانجرف كل ما فوق الأرض مع السيول المتعاظمة، وظهرت الطبقة البِكْر من التربة، وبانت الصخور المجليّة، وترنّقت السهول، وطفحت، ورنخت السطوح، فانفجرت الينابيع ، المكتومة مئات السنين، لتفور بحليبها السلسبيل، وأشرقت الشمس، كأنها تبزغ لأوّل مرّة على هذه البقعة من الكوكب.. وخرج الناس من بيوتهم، بعد أن شرّعوا الشابيك والأبواب، وأرهصت الأرض ببذورها، فشهقت بأعشاب راحت تتطاول وتتعالى وتنفرد، وتنشقّ بين أسرابها الجداول.. وصدى أغنية يقترب، شيئاً فشيئاً من البيوت.
أطفال على تلال خضراء منفتحة ممتدة يلهثون وراء الفراشات الملوّنة، وأسراب لا تنتهي من أشجار الرمّان والليمون والكرز، مرصوفة على جوانب الطريق الطويل الرحب المفرود، وبيوت من الجنّة حطّت بقرميدها الأرجواني بين غابات ساخنة مبلّلة بالرّهام، وطيور بيضاء تجنّح في الزرقة الصافية، وينابيع صغيرة تتدفق، وتشقّ طريقها جداول بين صخور نظيفة مصقولة، ونهر فتيّ يندفع بين التلال، وخيول مسبوكة تخرج منه، والرذاذ ماسات تتناثر من أعرافها، وتصهل فتسيل الفضّة من أوراق الشجر.
وصغار، بأناقة الفجر، يحملون حقائبهم ويخبّون نحو نشيد الجّرس العالي، ودقّات طبل بعيد تصل المنازل، فيبغم اليمام على سطوح ذاب عليه القمر، وليل نهاري زاخر باليرَقات على كريستال الواجهات الساطعة، وأثواب مخضلّة بالأرجوان تسحبها قامات الأيائل، وغناء خفيف يدبّ مثل النعاس في الحديد والجدران، وقبّة ذهبية، تتكور بمراياها السائلة، وخلفها راية تخفق باطمئنان.
هل قامت القيامة ، وشهدنا الحساب.. ونحن الآن في الجنّة !؟
لا ! لقد انقشع الإحتلال ، ونحن الآن في الدولة الحرّة .