خروج بريطانيا ومستقبل الإتحاد

د.عاطف أبو سيف
حجم الخط
يثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أسئلة كبرى حول مستقبل مشروع التكامل الاوروبي الذي سجل نجاحات مبهرة في نصف القرن الماضي بانتقاله من مجرد تعاون في مجال الكربون والصلب إلى تكامل في العديد من المجالات الاقتصادية والتشريعية وحتى تطوير سياسات خارجية وأمنية موحدة، ومن مجرد اتفاق بين ستة بلدان إلى اتحاد يضم ثمانية وعشرين بلداً. بل إن نمو الإتحاد كجسم سياسي لم يكن إلا ترجمة لزيادة نفوذه في السياسة الدولية وفي حل الكثير من الأزمات، غلى جانب حقيقة أنه شكل ثقلاً اقتصادياً لم يمكن تجاوزه في أي نقاش حول الاقتصاد الدولي. وإلى ذلك وفرت تجربة الإتحاد مادة دسمة للنقاشات النظرية في السياسة الدولية المعاصرة حول نشوء التحالفات ونظريات التكامل والوحدة والعلاقة الجدلية بين الدول الوطنية والتكتلات الأعلى وحول مستقبل هذه الدول في عصر العولمة، على اعتبار أن الإتحاد هو خير دليل على تراجع نفوذ وصلاحيات الدولة الوطنية لصالح تكونيات علوية.
لم يسبق لدولة أن خرجت من الاتحاد رغم أن ثمة سوابق شهدت رفض شعوب اوروبية مثلاً من المصادقة على دخول بلادهم في الإتحاد، فمثلاً المواطنون النرويجيون رفضوا في استفتاءين فكرة أن تصبح النرويج عضواً في الإتحاد. كما أن جرين لاند رفضت أن تظل عضواً في الإتحاد بعد أن منحتها الدنمارك استقلالها عام 1985 وكانت تقدر أن تصبح عضواً حيث أنها كانت جزءاً من الدنمارك لحظة دخوله الاتحاد. بالطبع دولة مثل سويسرا كانت ترفض دائماً ن تكون عضواً في الإتحاد بسبب مبدأ الحيادية الذي تبنته.
بيد أن الأوروبيين أنفسهم لم يستبعدوا فكرة أن تقوم دولة ما بالإنسحاب من مشروع التكامل، حيث أن هاجس الإنسحاب بدا قوياً في العقدين الاخيرين مع تزايد المعارضين لفكرة توسيع الإتحاد ليضم دولاً جديدة أو تعميق التكامل ليطال قطاعات أوسع تتعلق بالمهام. حيث أن اتفاقية لشبونة عام 2009 احتوت على فقرات تشير إلى إمكانية قيام بعض الدول بالإنسحاب وحددت الخطوات التي ستتبع لتحقيق ذلك. كان واضحاً في السنوات الأخيرة أنه سيكون المتعذر التقدم في المشروع الوحدوي أمام الهزات الاقتصادية والسياسية التي قد تعصف بأوروبا. فمثلاً رغم التدخل الأوروبي السريع لإنقاذ اليونان والبرتغال بعد الأزمات الاقتصادية التي واجهتها البلدان في النصف الأول من عام 2010 إلا أن مثل هذه الأزمات تثير أسئلة حول المستوى الذي يمكن أن يستمر فيه التضامن الأوروبي. فكانت ألمانيا مثلاً ترددت في التدخل لأسباب عديدة كي لا يوفر الاقتصاد الألماني كفالة مضمونة للاقتصاديات الأوروبية الضعيفة وبالتالي تسقط مبادئ الشفافية وتزيد الاتكالية بين الاقتصاديات الأوروبية.
لنتذكر تاريخ بريطانيا غير المستقر مع فكرة التكامل الأوروبي. ربما كان تشرشيل أول من دعا لوحدة أوروبا في خطابه في زيورخ حين دعا لنشوء ما اسماه الولايات المتحدة الأوروبية. لكنه لم يكن يقصد أن تكون بريطانيا جزءاً منه. وعليه لم توفق بريطانيا أن تكون دولة مؤسسة في المشروع الأوروبي. فقط بعد تفكك مستعمراتها وتراجع مكانتها في السياسة الدولية تقدمت لندن بطلب انضمام قام غريم بريطانيا شارل ديغول برفضه بقوة عام 1961 ثم قام مرة أخرى عام 1967 برفضه. ورغم تحجج ديغول وقتها بعدم موائمة الاقتصاد البريطاني الذي كان يمر بمجموعة من الأزمات مع اقتصاد الجماعة الأوروبية. إلا أنه اعتبار دخول الحصان البريطاني إدخلاً للعربة الأمريكية في مشروع الوحدة الأوروبية. عموما لم تكن معارضة ديغول لدخول بريطانيا للشراكة الأوروبية إلا ترجمة لصراع طويل حول السيادة في القارة الأوروبية لأكبر قوتين هيمنتا على المشهد السياسي الغربي منذ نهايات القرن السابع عشر حتى بدايات القرن العشرين.
ولنتذكر أن لندن أول من أدخل مفهموم أوروبا متفاوتة السرعات حيث لا يكون تكامل كل الدول الأعضاء في مؤسسات بروكسل في نفس المستوى، فثمة دول أكثر تكاملاً من دول. وعليه نأت لندن بنفسها عن بعض الاتفاقيات الحساسة مثل اتفاقية شينغن واتفاقية اليورو. كما أن المواطنين التشيك كانوا قد رفضوا دخول بلادهم في اتفاقية برشلونة وقال وقتها الرئيس التشيكي إن تطبيق الاتفاقية يعني انتهاء التشيك كدولة، مما تطلب أن تعفي التشيك نفسها من تطبيق بعض بنود الاتفاقية.
وعليه فإن الأمر قد لا يتوقف على بربطانيا التي تعتبر منذ دخولها الإتحاد عام 1973 من صقور المتشككين في مستقبل التكامل، إذ أنه قد يطال بعض الدول الأخرى أو على الاقل ستبدأ إثارة المزيد من النقاشات حول جدوى البقاء في الإتحاد وحول المزايا المتحققة من وراء ذلك. فمثلاً هناك تزايد لقوى اليمين في بعض الدول الأوروبية خاصة ألمانيا التي شهدت صعود بعض أحزاب اليمين العنصرية إلى حكم بعض المقاطعات لأول مرة في الانتخابات الأخيرة. كما أن أزمة الهجرة الأخيرة خلقت مساحة شاسعة من الخلاف بين الدول الاعضاء ستؤثر بالطبع على خيارات مواطنيها لو سألوا هل ستبقون في الإتحاد أم تغادرون.
بيد أن هذا لن يعني أن المؤسسات الوحدوية الأوروبية ستجلس مكتوفة اليد وهي ترى انهيارها بأم أعينها، إذ ستعمد على شن حملة إعلامية للترويج للنجاحات الكبرى التي حققها مشروع التكامل خلال أكثر من نصف قرن من الزمن بين مواطني أوروبا لتحسين صورة الإتحاد في نظر مواطنيه. قد يكون المواطن البريطاني صوت ضد سياسات حكوماته، لكنه في النهاية اختار أن يكون الإتحاد ومشروع التكامل الأوروبي كبش الفداء في التعبير عن هذا الاحتجاج، لذا فإن توعية المواطنين الأوروبين بأهمية مشروع التكامل، حيث سيتم صرف مليارات اليوروهات في شرح ذلك، سيكون مهمة مؤسسات بروكسل الأولى. إلى جانب ذلك فإن مؤسسات بروكسل ستكون أكثر حذراً في اتخاذ المزيد من عمليات التكامل التي تكون على حساب سيادة الدولة الوطنية خاصة في قضايا الهجرة والضرائب والعمل. وسيتم البحث الجدي عن سبل اجراء عمليات تجميلية على المؤسسة البيروقطراطية وتعزيز جودة الديمقراطية الهشة التي يتم تمثيل رأي دافعي الضرائب من خلالها في صنع القرار.