القادم، لا محالة

عبد الغني سلامة
حجم الخط
كثيراً ما نقرأ عن التحولات الجذرية التي طرأت على حياة الأسرة العربية خلال العقود الأخيرة، لدرجة أنها أصبحت المادة المفضلة لدى العديد من الكتّاب؛ نظراً لما يتمتع به هذا الموضوع من قدرة مدهشة على جذب القراء وإثارة مشاعرهم.
والأسلوب المتبع عادة هو إجراء مقاربات بين ما كان عليه الناس زمان، وبين ما هم عليه الآن، من مثل: أن الأسرة قديماً كانت تتجمع حول الأب، وهي تسهر على برنامج تلفزيوني محلي، أو تتدفأ على الكانون.. فيما تبدو الأسرة حاليا شبه مفككة، كل فرد فيها يلهو بحاسوبه المحمول، أو على هاتفه النقال.. أو تلك التغيرات التي أصابت المدن، المدرسة، المطبخ، ألعاب الأطفال، الملابس، العادات...
ومن يرجع بالزمن للخلف سيجد أن مقولات شبيهة كانت تتردد دوماً بين الأجيال المتلاحقة، أكثرها يأسف للتحولات الجديدة التي طرأت على حياة الناس وغيرتها (للأسوأ)، وعادة ما يكون الحديث مشوباً بعاطفة جياشة من الحنين للماضي، والتخوف مما يحمله المستقبل، مع تأكيد أن الزمن القديم كان أجمل وأفضل.
أي أن كل جيل كان يُظهر قلقه على القيم التي يؤمن بها، ويعلن عن تخوفه من التراجع عنها، واصفاً الحال كما لو أن الأسرة والمجتمع يتهاويان، وتتزعزع أركانهما دون مبادرات حقيقية لتثبيتها.
القاسم المشترك في كل مرة هو الخوف على مصير العائلة، وترابطها، وشرفها، وفقدان السيطرة على سلوك الأبناء (وبالذات البنات).. وهذه القضايا تعتبر بمثابة العصب الحساس للعقلية العربية عموماً، ونقطة ضعفها الإنساني.
وهي أيضاً كذلك في معظم المجتمعات الشرقية، بل وأنها  كانت كذلك وحتى أمد قريب في المجتمعات الغربية.
البعض يقول إنها تغيرات حتمية، لا بد أن تقع شئنا أم أبينا، مقابل من يقول إنها تغيرات طارئة، وتحولات مشبوهة (بتأثير قوى خارجية) يجب التصدي لها، والحفاظ على القيم السائدة. على أية حال، من الواضح أن تلك التغيرات مرتبطة بحركة الزمن، بالإضافة لجملة من العوامل الموضوعية والذاتية الأخرى.
الزمان ليس فقط مفهوما إنسانيا يعطي للناس قدرة ومرونة عالية على التغيير والاندماج فيه والتكيف معه؛ لأنه قبل ذلك مفهوم فيزيائي لا يعرف السكون أو الانجماد.
وحتى المكان (الذي هو الوجه الآخر للزمان) وحتى لو كان مجرد بيئة يجري في خلالها وفوقها تراكم الخبرات والحضارات الإنسانية، فهو أيضا واقع مادي، متحد بعلاقة لا انفصام فيها مع الزمان، ينتج عن هذه العلاقة العضوية ما يعرف بالزمكان، والذي منذ نشأة الكون وهو في حركة تطور وتغير دائبة ومثابرة.
والإنسان في وسط هذا (الزمكان) المتحرك، لم يتوقف عن التطور والتغير لحظة واحدة، ولم يتوقف عن اكتشاف نفسه والتعرف إلى مكنوناتها، والمدهش أنه في كل مرة يجد فيها ما هو جديد.
وإذا استثنينا المدّعين، والمتوهمين بأنهم بلغوا الكمال، يمكننا القول إن الشخصية الإنسانية لم تُكتَشف بالكامل، وإنها ما زالت لغزاً محيراً، وكوناً واسعاً يُغري بمزيد من الاكتشافات، ومن الصعب أن نزعم الآن أننا استطعنا سبر أغوارها كلها، لأن هذا سيعني نهاية العالم، أو النهاية (المعنوية) لأي إنسان يتوهم أنه وصَل نهاية المطاف، وفهِم نفسه بالكامل، لأننا ببساطة لسنا أمام مهارات بلاغية، أو نزعات نرجسية؛ نحن أمام محاولة علمية لفهم الإنسان والمجتمع والتغيرات التي أصابته، أو أخطأته.
والإنسان أصلاً لم تكن حياته مرتبة، أو مبرمجة على نحو معين، وما حصل معه هو تراكم لخبراته وتجاربه واختباراته الشخصية والجمعية التي منحته إرثاً هائلاً وحصيلة ضخمة من النتائج والدروس، مكّنته من بناء الحضارات، دون أن نغفل أثر ملايين التجارب الفاشلة، والطرق المسدودة، والخيبات، والنهايات العدمية، التي حتى لو لم نعرفها، إلا أننا عرفنا نقيضها.
قبل عقود قليلة كان الباحث يعتمد على قلمه وكتبه، ثم صار يعتمد أكثر على حاسوبه، وعلى محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، وعلى البرامج التي تختصر عمليات الإحصاء والتحليل وغير ذلك، اليوم لم يعد بإمكانه الاستغناء عن الحاسوب.
وما ينطبق على الحاسوب ينطبق أيضا على مئات الأجهزة الحديثة الأخرى التي اخترقت حياتنا وفرضت نفسها عليها بقوة، في شتى المجالات.
والحاسوب لا يقتصر استخدامه على الباحثين، بل هو في عملية انتشار أفقي ستطال كل العالم، وفي عملية تطور مذهلة، ستبلغ غايتها القصوى في غضون فترة قصيرة جداً بمقياس التاريخ الإنساني، ليصبح حينها الأداة الرئيسة التي تنظم حياة الإنسان وتبرمجها، وهذا ينسحب أيضا على كل ما عرفناه من أجهزة وتقنيات، وما لم نعرفه بعد.
وهذا يعني أيضا استحالة تجاهل التغييرات والآثار التي تركتها تلك الأجهزة والمخترعات على حياتنا، وبالتالي على أدوات ووسائل الإنتاج، وما ينشأ عن ذلك من وقائع مادية وفكرية جديدة، أي من ناحية القدرة المدهشة لكل تلك العوامل على إعادة تركيب وتجميع عقلياتنا ونفسياتنا وأنماط حياتنا وسلوكنا اليومي، وبالتالي إعادة إنتاج مفاهيمنا وقيمنا، ونظرتنا تجاه الأشياء.
فالإنسان يهندس البيت أولاً، ولكن بعد إتمامه يتولى هذا البيت هندسة حياة ساكنيه، وكذلك تفعل المخترعات والاكتشافات.
تماما كما فعل اكتشاف القمح واختراع أول حربة للصيد، في الإنسان قديماً، وكما فعلت الآلة البخارية والمطبعة والسيارة والحمامات الإفرنجية والإنترنت في الإنسان حديثا، وكما ستواصل فعلها في الإنسان في كل زمان ومكان.
والسؤال المطروح: هل ستكون الأفكار والأخلاق والقيم والأيديولوجيات بمعزل عن هذه المتغيرات؟ وكم ستصمد؟ أليس هو نفس السؤال الذي عصف بذهنيات من سبقونا، وأجابوا عنه في حينها بطرق مختلفة؟ ما يؤكد أن الثابت الوحيد في هذا العالم المتحرك هو التغيير، الذي ليس لنا من خيارات إزاءه سوى فهمه، والتعاطي معه بعقلانية وإيجابية.
الإنسان بطبعه، مُصاب بالنوستاليجيا؛ يحنُّ للماضي، الذي يجد فيه الأمان، لأنه انتهى وصار تاريخا، ويخشى المستقبل، لأنه مجهول وحافل بالاحتمالات؛ لذلك تراه يميل للسكينة والثبات، ولا يحب التغيير، (خاصة التغيرات الفجائية).. لكن هذا لن يشفع له في عالم متغير، تجري تغيراته بسرعات متزايدة، ويحمل في كل لحظة ما هو جديد ومختلف.
وأهم ما في الموضوع، أن من جملة ما ستأخذه تلك المتغيرات في طريقها (أو في سيلها الجارف) ما نسميه الأخلاق والقيم والتقاليد.
وكل ما لمسناه وشاهدناه من متغيرات في الخمسين سنة الأخيرة ما هو إلا «افتتاحية العدّاد»، أو «بروفة» مصغرة لما سيشهده العالم بعد زمن .. لا يعلم مداه ومحتواه إلا الله سبحانه.
والله ينجينا من الآتي...