بدايةً، لست واحداً ممن يقفون لتركيا على رؤوس أصابع أقدامهم، ينتظرون أول خطأ تقع فيه الجارة الشمالية، ليقعقعوا لها بالشنان، ويفتحوا عليها نيران مدفعيتهم الكلامية الثقيلة، تسديداً منهم لحساب مفتوح في صفحة أخرى، أو تسوية مؤجلة مع تاريخ قديم مثقل بذكريات سقيمة. ولم يساورني الشك يوماً أن سياسات الدول تعبير عن المصالح الحيوية، لا عن المسائل المبدئية، مهما ارتفعت فيها شعارات نبيلة، بما في ذلك تركيا "الأردوغانية"، التي سحرت ألباب كثيرين، واستهوت تجربتها الناجحة أفئدة نخب العرب والمسلمين، كدولة عصرية.
وعلى خلفية اعتقاد راسخ (كثيراً ما كان يتزعزع في الواقع) قوامه أن حسنات تركيا العديدة كانت ترجح في كفة الميزان على ذنوبها السياسية المتفرقة، فقد كان على المرء المتحفظ على بعض مواقف أنقرة إزاء هذه المسألة أو تلك، أن يغض البصر حيناً، وأن يبدي في أغلب الأحيان قدراً من التفهم لاعتباراتها الداخلية ومنظومة علاقاتها الخارجية المعقدة. ولعل أوضح الأمثلة المضيئة على ذلك كانت سفينة مرمرة الشهيرة، التي استقطبت واقعتها تعاطفاً لا سابق له من لدن العرب عموماً، ومن جانب الفلسطينيين على وجه الخصوص، لاسيما في قطاع غزة.
ومن المفارقات الفارقة اليوم، أن الرافعة السياسية والأخلاقية التي حملت زعيم حزب العدالة والتنمية إلى أعلى مرتبة في الوجدان العربي العام، ونعني بها واقعة مرمرة ذاتها، هي التي تعمل الآن على تجريد زعيم الحزب نفسه، من المميزات والأفضليات المعقودة على سارية علم أردوغان وحده؛ ليس جراء الاتفاق مع إسرائيل على إعادة العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها، وإنما بفعل التخلي عن التعهدات المعلنة، بأن هذه الخطوة مشروطة باعتذار إسرائيل عن فعلتها، ودفع تعويضات، وفوق ذلك رفع الحصار الظالم عن قطاع غزة.
ومن غير تحميل تركيا فوق ما تحتمله من التزامات الدولة المجردة، فعلاً وقولاً، من إسناد حلفائها الأطلسيين، منذ إسقاط طائرة السوخوي الروسية، فإنه لا مناص من إبداء الشعور بالخذلان، والإعراب عن خيبة الأمل لدى من ظل يراهن على صلابة الموقف التركي حتى اللحظة الأخيرة، ويستبعد قيام أنقرة بتقويض سمعتها بهذه السرعة، خصوصاً وهو يرى التعهدات تتساقط، ويشاهد الرافعة الأخلاقية، نفسها، تنهار بجرة قلم، محطمة معظم ما راكمته تدريجياً، بما في ذلك صورة العثمانيين الجدد، التي كانت في عيون كثيرين، تفيض بالاحترام والجدارة والروح القتالية.
وأحسب أن المرارة التي تعقد الآن حلوق الغزيين على وجه الخصوص، إزاء هذا التراجع المهين، لن تخفف من حدتها الترضيات الجانبية، مثل بناء مستشفى ومحطة تحلية مياه وكهرباء (مشكوك بتمريرها من جانب السلطة الفلسطينية)، وتسهيل مرور المساعدات التركية عبر ميناء أسدود، أي تحسين شروط حياة المعتقلين في سجن القطاع، الذي سيبقى محاصراً بموافقة تركية هذه المرة، الأمر الذي سيجعل "حماس" تعض على الجرح بالنواجذ، وتصمت على مضض، حتى لا تفلت منها صرخة ألم مدوية، تزيد طين الحصار والعزلة والتهميش بلة.
وليس من المفيد الاستطراد في الاستنتاجات. إلا أن هذا التحوّل الدراماتيكي في الموقف التركي حيال غزة، التي تعامل معها أردوغان كبنت أخت يتيمة، رغب في شد أزرها وتطييب خاطرها مرة إثر مرة، ينبغي له أن يفتح الأعين واسعة على عدم استبعاد حدوث تحوّلات مماثلة على جبهات أخرى، بما في ذلك الجبهة السورية، ليس حيال نظام الأسد بالضرورة، وإنما حيال الالتزامات غير المعلنة بدعم الثورة السورية حتى النهاية، جراء تعقد المشهد الإقليمي أكثر فأكثر، وازدياد وطأة الضغوط الداخلية والخارجية.
على أن ما يثير الدهشة حقاً، ويدعو إلى عدم الفهم أبداً، تجلي كل هذه القدرة الكبيرة لدى أردوغان على التكيّف مع المتغيرات والضرورات السياسية الملحة، بما في ذلك ضرورة التصالح مع إسرائيل، التي كان الرئيس التركي قد أشبعها شتماً، وشيطن سياستها العنصرية حيال أشقائه الفلسطينيين (وكان صائباً ومحقاً)، فيما لا يستطيع من يعتبر نفسه زعيماً كبيراً في العالم الإسلامي، أن يستجيب للوساطة السعودية، بطي الصفحة مع مصر، لتعزيز ما سمي بالتحالف السني، وتمكين الرياض من التحليق بجناحين عريضين، قبالة المشروع التوسعي الإيراني.
عن الغد الاردنية