هل يمارس المجتمع الفلسطيني فعل مواجهة حقيقيا ومستمرا ضد الاحتلال، أم يمارس نوعا من عملية التكيف معه؟! للإجابة على السؤال، بعيدا عن لغة الخطابة والشعارات، ينبغي أولاً ودوما تذكر التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني على مدى القرن الأخير، واستحضار الثورات والانتفاضات الشعبية، وكل الشهداء والأسرى، والأثمان الفادحة التي قدمها في سبيل صموده وتمسكه بأرضه... ولكن، هل ظل فعله للمقاومة دائما ومستمرا؟ هل صار جزءاً من حياته اليومية؟ كم نسبة الذين انخرطوا فعليا أو معنويا في مواجهة الاحتلال؟ وحتى أولئك الذين انخرطوا فعليا في الثورة، هل تغلغلت الثورة إلى وعيهم، واستقرت في وجدانهم، وفرضت نفسها على أنماط سلوكهم؟ .
لسنا هنا بصدد إصدار أحكام، أو توجيه لوم لأحد؛ بل هي محاولة لفهم واقعنا بشكل موضوعي، مع إدراكنا بأن الإنسان بطبيعته يميل أبدا للسلم والرخاء، والفلسطيني الذي سيمضي حياته بأكملها تحت الاحتلال لا يستطيع أن يظل دائما متجهما، ويده على الزناد، فلا بد له أن يعيش حياة طبيعية بشكل أو بآخر، وليس في ذلك انتقاصا من وطنيته أو من شجاعته.. وربما أن الفلسطينيين في أعماق وعيهم يدركون الخلل الفادح في موازين القوى، وحتى حين أطلقوا ثورتهم كانوا يريدون منها استنهاض الواقع العربي والإسلامي: إما حراك سياسي اقتصادي عربي فاعل ومؤثر، ينهي الاحتلال، أو تحرك الجيوش العربية والإسلامية... ومع طول الانتظار صاروا يضبطون إيقاع حياتهم مزاوجين بين التحرك والمقاومة، وبين المسايرة والتكيف..
البعض يرى في أنماط الحياة للمجتمع الفلسطيني شكلا من التكيف والمسايرة مع الاحتلال: الحركة التجارية، بناء الفلل والقصور وامتلاك السيارات الفارهة، الحفلات، أنماط الاستهلاك الترفي.. في حين يرى آخرون أن هذا وضع طبيعي، لأن مجرد صمود الفلسطينيين فوق أرضهم هو مقاومة.. ولكن في كل الأحوال، حتى في حالة المقاومة العنيفة فإن الفلسطينيين مارسوا أشكالا متعددة من المسايرة والتكيف؛ فمثلا تكيفوا مع الحواجز خاصة في السنوات الأولى من الانتفاضة؛ حيث نما حينها على جانبي الحاجز مجتمعات صغيرة خاصة، من سيارات مشطوبة ومركبات تجرها الدواب لنقل المواطنين... وتكيفوا مع الإغلاقات المتكررة، حيث لجأوا للطرق الالتفافية. وأثناء الاجتياحات، وحالات حظر التجول غيروا مواعيد حفلات الزفاف والتخرج وحتى مواقيت الدوام.. أما القرى الواقعة خلف الجدار فصار لها أنماط حياتها الخاصة.
ليست حياة الدعة من قبل شرائح معينة هي الشكل الوحيد للمسايرة مع الاحتلال؛ الإقبال على المنتجات الإسرائيلية، حتى بوجود بدائل وطنية لها يعد شكلا من المسايرة (غير المقبولة)، وكذلك العمل في المستوطنات، والتسوق من المولات الإسرائيلية.. والأخطر من ذلك تكيف الوعي الجمعي على شكل استلاب فكري، وتسليم بالأمر الواقع.. وأيضا تكيف العرب مع الاحتلال من خلال محاولات التطبيع..
الفلسطينيون في الشتات تكيفوا مع منافيهم، سواء أولئك الذين استقروا في المدن الكبيرة، أم الذين ظللوا في المخيمات، وتعايشوا معها (وهذا لا يعني أنهم لا يحلمون بالعودة)..
كما تكيف الفلسطينيون مع الانقسام، الذي أخذ يتعمق أكثر فأكثر مع الوقت، حتى تشكل واقعان متباينان في جناحي الوطن..
هذا التكيف وتلك المسايرة لهما جذر اجتماعي يضرب عميقا في التاريخ، وهما من الأنماط التربوية السائدة في المجتمع العربي، والتي تنشأ في المراحل المبكرة من الطفولة، وتظهر فيما بعد بأشكالها المتعددة.. ويعرف د.»هشام شرابي» المسايرة بأنها تعني حرفيا أن يسير المرء مع الآخرين ويتكيف معهم، وهي عكس الرفض والمواجهة.. على الصعيد الاجتماعي تقترن المسايرة بالمجاملة، التي تؤدي إلى ازدواج في الشخصية، وتناقض بين القول والعمل.. مع أن لها وجها إيجابيا يكمن في تخفيف حدة التوتر الاجتماعي، وفي تلك الدماثة والضيافة ومعسول الكلام، والأدب الظاهر المريح؛ إلا أن للمسايرة مساوئ وسلبيات عديدة؛ فالعمل الذي تسيطر عليه روح المسايرة والمجاملة لا يمكنه أن يؤدي إلى النجاح؛ فمعالجة المشكلات المطروحة يتطلب لقاء الناس وجها لوجه، وإذا اتخذت طابع الشخصنة والانفعال العاطفي القائم على المسايرة سيكون من المستحيل التمييز في الحياة العامة بين الناس وأفكارهم، أو بين الناس ومواقفهم الحقيقية.. والمسايرة هنا لن تكون مجرد سلوك تقليدي، فهي تفترض موقفا ذهنيا يتهرب من المواجهة المباشرة لمعالجة المشكلات بشكل جذري، أي موقف يفتش عن حلول سطحية وتسويات مؤقتة.
ويؤكد د.»شرابي» أن المسايرة تولد تزييفا للوعي، ويرى أن الرياء الذي سيتولد عن المسايرة يؤدي بصورة تلقائية الى تغذية الروح العدوانية والتي تظهر بصورة خاصة في الاستغابة والنيل من سمعة الآخرين، ويمكن الاستنتاج أن التوافق الظاهري الذي تحققه المسايرة يؤدي إلى توتر مبطن، وبدلا من أن يتاح للناس أن يحلوا خلافاتهم وتناقضاتهم بصورة صريحة ومكشوفة، سيكتمونها ويجعلونها تتأزم في نزاع باطني، ولذلك فإن التفاعل الاجتماعي لا يجري إلا على مستوى المجاملات، أما سائر مستويات التفاعل الاجتماعي فهي كلها مستقطبة حول العداء والمخاصمة والنـزاع.
والمسايرة لا تنشأ مع الطفل بسبب تدريبه على فن المجاملة فحسب، فهناك سبب آخر لا يقل أهمية، وهو العقاب الجسدي، الذي يعلم الطفل على الرضوخ الآني لمن هم أكبر أو أقوى، فبسبب ضعف قدرته على المواجهة في تلك السن، فإنه سيتعلم أن يسكت على القهر وأن يكبت الضغينة ويؤجلها، وسيؤدي ذلك كله إلى إضعاف قدرته على المجابهة والتحدي، وبالتالي إضعـاف شخـصيته، ونتيجة هذا الضعـف ستلجأ الشخصية (المقموعة) إلى المداراة والتمويه بدلا من الصراحة والوضوح، وللأساليب غير المباشرة المستندة إلى الكذب وإخفاء النوايا والرضوخ الآني والشكلي للمشكلة التي أمامها، أو للشخص الذي تتعامل معه.
ومن خلال الأمثلة السابقة لاحظنا كيف أدت أنماط الحياة الاجتماعية القائمة على المسايرة إلى ممارسات جمعية على المستوى السياسي تقوم أيضا على المسايرة؛ فمثلا، بدلا من رفض الفلسطينيين إجراءات الاحتلال رفضا كاملا بدأوا بالتكيف معها ومسايرتها ثم التعايش معها بأشكال متعددة.
ومن الجدير بالذكر أن لحركات الإسلام السياسي مرادف أيديولوجي للمسايرة، هو «التقيّة»؛ أي إخفاء النوايا الحقيقية، والقبول الظاهري بالواقع، مع رفضه داخليا، وتأجيل المواجهة إلى حين تغير الظروف وإتاحة الفرصة.. وهذا كان يظهر بوضوح عند استلام أي جماعة منها للسلطة.
لسنا هنا بصدد إصدار أحكام، أو توجيه لوم لأحد؛ بل هي محاولة لفهم واقعنا بشكل موضوعي، مع إدراكنا بأن الإنسان بطبيعته يميل أبدا للسلم والرخاء، والفلسطيني الذي سيمضي حياته بأكملها تحت الاحتلال لا يستطيع أن يظل دائما متجهما، ويده على الزناد، فلا بد له أن يعيش حياة طبيعية بشكل أو بآخر، وليس في ذلك انتقاصا من وطنيته أو من شجاعته.. وربما أن الفلسطينيين في أعماق وعيهم يدركون الخلل الفادح في موازين القوى، وحتى حين أطلقوا ثورتهم كانوا يريدون منها استنهاض الواقع العربي والإسلامي: إما حراك سياسي اقتصادي عربي فاعل ومؤثر، ينهي الاحتلال، أو تحرك الجيوش العربية والإسلامية... ومع طول الانتظار صاروا يضبطون إيقاع حياتهم مزاوجين بين التحرك والمقاومة، وبين المسايرة والتكيف..
البعض يرى في أنماط الحياة للمجتمع الفلسطيني شكلا من التكيف والمسايرة مع الاحتلال: الحركة التجارية، بناء الفلل والقصور وامتلاك السيارات الفارهة، الحفلات، أنماط الاستهلاك الترفي.. في حين يرى آخرون أن هذا وضع طبيعي، لأن مجرد صمود الفلسطينيين فوق أرضهم هو مقاومة.. ولكن في كل الأحوال، حتى في حالة المقاومة العنيفة فإن الفلسطينيين مارسوا أشكالا متعددة من المسايرة والتكيف؛ فمثلا تكيفوا مع الحواجز خاصة في السنوات الأولى من الانتفاضة؛ حيث نما حينها على جانبي الحاجز مجتمعات صغيرة خاصة، من سيارات مشطوبة ومركبات تجرها الدواب لنقل المواطنين... وتكيفوا مع الإغلاقات المتكررة، حيث لجأوا للطرق الالتفافية. وأثناء الاجتياحات، وحالات حظر التجول غيروا مواعيد حفلات الزفاف والتخرج وحتى مواقيت الدوام.. أما القرى الواقعة خلف الجدار فصار لها أنماط حياتها الخاصة.
ليست حياة الدعة من قبل شرائح معينة هي الشكل الوحيد للمسايرة مع الاحتلال؛ الإقبال على المنتجات الإسرائيلية، حتى بوجود بدائل وطنية لها يعد شكلا من المسايرة (غير المقبولة)، وكذلك العمل في المستوطنات، والتسوق من المولات الإسرائيلية.. والأخطر من ذلك تكيف الوعي الجمعي على شكل استلاب فكري، وتسليم بالأمر الواقع.. وأيضا تكيف العرب مع الاحتلال من خلال محاولات التطبيع..
الفلسطينيون في الشتات تكيفوا مع منافيهم، سواء أولئك الذين استقروا في المدن الكبيرة، أم الذين ظللوا في المخيمات، وتعايشوا معها (وهذا لا يعني أنهم لا يحلمون بالعودة)..
كما تكيف الفلسطينيون مع الانقسام، الذي أخذ يتعمق أكثر فأكثر مع الوقت، حتى تشكل واقعان متباينان في جناحي الوطن..
هذا التكيف وتلك المسايرة لهما جذر اجتماعي يضرب عميقا في التاريخ، وهما من الأنماط التربوية السائدة في المجتمع العربي، والتي تنشأ في المراحل المبكرة من الطفولة، وتظهر فيما بعد بأشكالها المتعددة.. ويعرف د.»هشام شرابي» المسايرة بأنها تعني حرفيا أن يسير المرء مع الآخرين ويتكيف معهم، وهي عكس الرفض والمواجهة.. على الصعيد الاجتماعي تقترن المسايرة بالمجاملة، التي تؤدي إلى ازدواج في الشخصية، وتناقض بين القول والعمل.. مع أن لها وجها إيجابيا يكمن في تخفيف حدة التوتر الاجتماعي، وفي تلك الدماثة والضيافة ومعسول الكلام، والأدب الظاهر المريح؛ إلا أن للمسايرة مساوئ وسلبيات عديدة؛ فالعمل الذي تسيطر عليه روح المسايرة والمجاملة لا يمكنه أن يؤدي إلى النجاح؛ فمعالجة المشكلات المطروحة يتطلب لقاء الناس وجها لوجه، وإذا اتخذت طابع الشخصنة والانفعال العاطفي القائم على المسايرة سيكون من المستحيل التمييز في الحياة العامة بين الناس وأفكارهم، أو بين الناس ومواقفهم الحقيقية.. والمسايرة هنا لن تكون مجرد سلوك تقليدي، فهي تفترض موقفا ذهنيا يتهرب من المواجهة المباشرة لمعالجة المشكلات بشكل جذري، أي موقف يفتش عن حلول سطحية وتسويات مؤقتة.
ويؤكد د.»شرابي» أن المسايرة تولد تزييفا للوعي، ويرى أن الرياء الذي سيتولد عن المسايرة يؤدي بصورة تلقائية الى تغذية الروح العدوانية والتي تظهر بصورة خاصة في الاستغابة والنيل من سمعة الآخرين، ويمكن الاستنتاج أن التوافق الظاهري الذي تحققه المسايرة يؤدي إلى توتر مبطن، وبدلا من أن يتاح للناس أن يحلوا خلافاتهم وتناقضاتهم بصورة صريحة ومكشوفة، سيكتمونها ويجعلونها تتأزم في نزاع باطني، ولذلك فإن التفاعل الاجتماعي لا يجري إلا على مستوى المجاملات، أما سائر مستويات التفاعل الاجتماعي فهي كلها مستقطبة حول العداء والمخاصمة والنـزاع.
والمسايرة لا تنشأ مع الطفل بسبب تدريبه على فن المجاملة فحسب، فهناك سبب آخر لا يقل أهمية، وهو العقاب الجسدي، الذي يعلم الطفل على الرضوخ الآني لمن هم أكبر أو أقوى، فبسبب ضعف قدرته على المواجهة في تلك السن، فإنه سيتعلم أن يسكت على القهر وأن يكبت الضغينة ويؤجلها، وسيؤدي ذلك كله إلى إضعاف قدرته على المجابهة والتحدي، وبالتالي إضعـاف شخـصيته، ونتيجة هذا الضعـف ستلجأ الشخصية (المقموعة) إلى المداراة والتمويه بدلا من الصراحة والوضوح، وللأساليب غير المباشرة المستندة إلى الكذب وإخفاء النوايا والرضوخ الآني والشكلي للمشكلة التي أمامها، أو للشخص الذي تتعامل معه.
ومن خلال الأمثلة السابقة لاحظنا كيف أدت أنماط الحياة الاجتماعية القائمة على المسايرة إلى ممارسات جمعية على المستوى السياسي تقوم أيضا على المسايرة؛ فمثلا، بدلا من رفض الفلسطينيين إجراءات الاحتلال رفضا كاملا بدأوا بالتكيف معها ومسايرتها ثم التعايش معها بأشكال متعددة.
ومن الجدير بالذكر أن لحركات الإسلام السياسي مرادف أيديولوجي للمسايرة، هو «التقيّة»؛ أي إخفاء النوايا الحقيقية، والقبول الظاهري بالواقع، مع رفضه داخليا، وتأجيل المواجهة إلى حين تغير الظروف وإتاحة الفرصة.. وهذا كان يظهر بوضوح عند استلام أي جماعة منها للسلطة.