هذا ما يحصل دائماً، يقصد الموت اختيار ضحاياه من المخمل، هكذا يخيَّل لي، لعبرة وحكمة لا أستعجل معرفة أسرارها.
وما يحصل معي، سأبقى أتجنب الحديث عن صديقتي "نهاية محمد"، تجنباً أن أستخدم الفعل الناقص "كان"، لا يليق بصديقتي الغياب وأفعال الماضي.
يقولون في بلادنا حيث تتسع رقعة انتشار الموت على مدياتها، يبدأ الموت كبيراً ومن ثم يبدأ في التضاؤل حتى النسيان، لولا نعمة النسيان لغرقت الأرض بالدموع.
ويقول الكاتب نجيب محفوظ: "إن الموت يبدأ بالذاكرة، وموت الذاكرة أقسى أنواع الموت، ففي قبضته تعيش موتك وأنت حي".
إنها خبرات وتجارب الموت، بين موت يتضاءل وبين موت يكبر بإحياء الذاكرة. في حالة صديقتي نهاية، الاستثناء. بدأ الموت كبيراً وبقي كبيراً، وباشر في نبش الذاكرة.
دقت نهاية بابي أول مرة في دمشق، بادهتني قائلة: جئت لتنظيمك في الجبهة ثم استدركت لدى التقاطها ملامح دهشتي لأن هناك من سبقها، استبدلت جملتها "نحن أهلك".
احتفظت بالجملة دائما، أغلبُ الظن أنّ هذه الجملة كانت هي البداية. بعدها وجدتني أتأبط ذراعها ونتوجه معاً نحو الفضاء الحر. قبلها لم أكن قد التقيتُ امرأة صداقتها بمثل هذه السهولة.
كانت، قد تخطَّت بضع سنوات بعد العشرين، وأنا على بعد خطوات منها.
كانت تبدو أصغر من سنّها، حسبتها في الثانوية العامة، لكن يقينها كان أكبر كثيراً من عمرها.
قذفنا بقامتينا في رطوبة "الشام"، مشينا نتأبط "بردى"، مررنا بمعرض ومطعم يقدم الفتة الشامية، وانخرطنا في أحاديث متشعبة عن النضال والمخيمات والجبهة والعمل في صفوف النساء واتحاد المرأة.
كانت تفرش بسطة مستطيلة أمامي، وأنا أقدح ذهني المشتت بين تفاصيل البسطة، ومع كل خطوة كانت تورطني وتنسبني لعمل لا نهاية له. تلاحظ ورطتي فنذهب معاً نحو السينما والروايات وعن الحب وعملها في مدرسة وكالة الغوث في مخيم "السبينة".
ونعود في آخر المطاف إلى فلسطيننا كما أراها بعين النازحين وتراها بعين اللاجئين! إذن نلتقي غداً.
بدأت "نهاية" تظهر في حياتي ويوميّاتي، نطوي الساعات كلمح البصر. لم يكن قد سبق لي أن مرّت امرأة بي بتلك العذوبة، غيَّرت موقفي من العمل التنظيمي في صفوف النساء وربات البيوت على وجه الخصوص، كانت مخزنا للطاقة المتجددة، بالعمل والمثابرة، عمل يستولد عملاً جديدا، وخطوة تستنسخ خطوة تالية، دائما نحو القاع والعمق. وتبقى الجملة التي احتفظت بها بالقرب من قلبي.
لم تغادري المكان، أشتهي ممارسة ألعابنا المفضلة، استخدام الرموز "الكودية" في أحاديثنا، نرى إن كنا لا زلنا نتفاهم بوساطتها، ونختبر تفاهمنا بعد كل ابتعاد جغرافي بفعل النزق العربي والابتعاد القسري. أنت في الشام وأنا في عمان في المرحلة التي تلت خطف الموت "خالد"، أنت في رام الله وأنا في عمان بفعل تأخر الاحتلال في منح ما أطلق عليه مصطلح "الرقم الوطني"، ما أفدح المصطلح.
أنت في تونس وبيروت وأنا في الشام، بفعل النزق والعقاب السوري. وبين الجغرافيات نعود ونفحص سلامة لغتنا، ونتبادل الأوراق والرسائل.
مازلت أرى لعبتنا المفضلة، أسحب ورقة صغيرة حين نحتاج إلى تبادل الاستشارات في اجتماع ما، أدوِّن عليها كلمة أو أرسم عيْنا تغمز، أكورها وأرميها إليك، تلتقطي السؤال فتكتبي سطراً مكتملاً وتذيليه بوردة وتعيدي الجواب، نضحك إذ نتفق، أنهي تبادل القصاصات برسم عين مسدلة الأهداب. لعلّي كنتُ أسبح في حلمٍ بعيد، فالأشياء دائما متداخلة في ذهني الشارد تجنباً للفعل الناقص، كانت.
نفقدك ونفتقدك، تبادل الأوراق بلغة جديدة، شغور المنصات والمجالس والموائد، والجملة التي أورثتني اليُتم.
موتك على مدار العام، رفض فكرة التواري، زيارة قبرك علَّنا نصدق، ووجدت أني أقرب إلى الاعتقاد أنك قد سافرت لزيارة والدتك، وستعودين.
وما يحصل معي، سأبقى أتجنب الحديث عن صديقتي "نهاية محمد"، تجنباً أن أستخدم الفعل الناقص "كان"، لا يليق بصديقتي الغياب وأفعال الماضي.
يقولون في بلادنا حيث تتسع رقعة انتشار الموت على مدياتها، يبدأ الموت كبيراً ومن ثم يبدأ في التضاؤل حتى النسيان، لولا نعمة النسيان لغرقت الأرض بالدموع.
ويقول الكاتب نجيب محفوظ: "إن الموت يبدأ بالذاكرة، وموت الذاكرة أقسى أنواع الموت، ففي قبضته تعيش موتك وأنت حي".
إنها خبرات وتجارب الموت، بين موت يتضاءل وبين موت يكبر بإحياء الذاكرة. في حالة صديقتي نهاية، الاستثناء. بدأ الموت كبيراً وبقي كبيراً، وباشر في نبش الذاكرة.
دقت نهاية بابي أول مرة في دمشق، بادهتني قائلة: جئت لتنظيمك في الجبهة ثم استدركت لدى التقاطها ملامح دهشتي لأن هناك من سبقها، استبدلت جملتها "نحن أهلك".
احتفظت بالجملة دائما، أغلبُ الظن أنّ هذه الجملة كانت هي البداية. بعدها وجدتني أتأبط ذراعها ونتوجه معاً نحو الفضاء الحر. قبلها لم أكن قد التقيتُ امرأة صداقتها بمثل هذه السهولة.
كانت، قد تخطَّت بضع سنوات بعد العشرين، وأنا على بعد خطوات منها.
كانت تبدو أصغر من سنّها، حسبتها في الثانوية العامة، لكن يقينها كان أكبر كثيراً من عمرها.
قذفنا بقامتينا في رطوبة "الشام"، مشينا نتأبط "بردى"، مررنا بمعرض ومطعم يقدم الفتة الشامية، وانخرطنا في أحاديث متشعبة عن النضال والمخيمات والجبهة والعمل في صفوف النساء واتحاد المرأة.
كانت تفرش بسطة مستطيلة أمامي، وأنا أقدح ذهني المشتت بين تفاصيل البسطة، ومع كل خطوة كانت تورطني وتنسبني لعمل لا نهاية له. تلاحظ ورطتي فنذهب معاً نحو السينما والروايات وعن الحب وعملها في مدرسة وكالة الغوث في مخيم "السبينة".
ونعود في آخر المطاف إلى فلسطيننا كما أراها بعين النازحين وتراها بعين اللاجئين! إذن نلتقي غداً.
بدأت "نهاية" تظهر في حياتي ويوميّاتي، نطوي الساعات كلمح البصر. لم يكن قد سبق لي أن مرّت امرأة بي بتلك العذوبة، غيَّرت موقفي من العمل التنظيمي في صفوف النساء وربات البيوت على وجه الخصوص، كانت مخزنا للطاقة المتجددة، بالعمل والمثابرة، عمل يستولد عملاً جديدا، وخطوة تستنسخ خطوة تالية، دائما نحو القاع والعمق. وتبقى الجملة التي احتفظت بها بالقرب من قلبي.
لم تغادري المكان، أشتهي ممارسة ألعابنا المفضلة، استخدام الرموز "الكودية" في أحاديثنا، نرى إن كنا لا زلنا نتفاهم بوساطتها، ونختبر تفاهمنا بعد كل ابتعاد جغرافي بفعل النزق العربي والابتعاد القسري. أنت في الشام وأنا في عمان في المرحلة التي تلت خطف الموت "خالد"، أنت في رام الله وأنا في عمان بفعل تأخر الاحتلال في منح ما أطلق عليه مصطلح "الرقم الوطني"، ما أفدح المصطلح.
أنت في تونس وبيروت وأنا في الشام، بفعل النزق والعقاب السوري. وبين الجغرافيات نعود ونفحص سلامة لغتنا، ونتبادل الأوراق والرسائل.
مازلت أرى لعبتنا المفضلة، أسحب ورقة صغيرة حين نحتاج إلى تبادل الاستشارات في اجتماع ما، أدوِّن عليها كلمة أو أرسم عيْنا تغمز، أكورها وأرميها إليك، تلتقطي السؤال فتكتبي سطراً مكتملاً وتذيليه بوردة وتعيدي الجواب، نضحك إذ نتفق، أنهي تبادل القصاصات برسم عين مسدلة الأهداب. لعلّي كنتُ أسبح في حلمٍ بعيد، فالأشياء دائما متداخلة في ذهني الشارد تجنباً للفعل الناقص، كانت.
نفقدك ونفتقدك، تبادل الأوراق بلغة جديدة، شغور المنصات والمجالس والموائد، والجملة التي أورثتني اليُتم.
موتك على مدار العام، رفض فكرة التواري، زيارة قبرك علَّنا نصدق، ووجدت أني أقرب إلى الاعتقاد أنك قد سافرت لزيارة والدتك، وستعودين.