مؤشر السعادة

عبد الغني سلامة
حجم الخط
في عصر الثورة المعلوماتية والميديا المعولمة، تنشرُ بعض المؤسسات المتخصصة في كل عام قوائم عديدة ومتنوعة، من بينها قائمة "أفضل عشرة أماكن للسكن في العالم"، وتختار تلك الأماكن بناءً على معايير مختلفة، أهمها الوضع الاقتصادي، البنية التحتية، الخدمات، الرفاه الاجتماعي، الأمن، الاستقرار... وعادة ما تحتل مدن في كندا وأستراليا ودول إسكندنافية والولايات المتحدة وأوروبا المراتب الأولى، ومن النادر جداً أن تأتي أي مدينة من دول العالم الثالث حتى في أسفل القائمة، كما لو أن مدننا لا تصلح للعيش الكريم. فإلى أي مدى تقترب هذه القوائم من الصواب؟!.
في كل الدول الغنية تقريبا (والفقيرة أيضاً)، توجد طبقة طفيلية، وظيفتها أن تنهش من لحم المجتمع، وتعتاش على حساب الآخرين، ضمن منظومة فساد مستترة في أغلب الأحيان، بغطاء وحماية من المتنفذين في الدولة. ومقابل هذه الفئة، توجد طبقة مسحوقة من المعدَمين والمهمَّشين. دول قليلة جدا في العالم (اليابان والدول الإسكندنافية مثلاً) وضعت برامج وخصصت موازنات ضخمة لمعالجة الفقر والبطالة وتحسين الخدمات العامة والرفاه الاجتماعي؛ وما عدا ذلك من دول؛ فتعاني من تكاثر العشوائيات وجيوب الفقر والمناطق المحرومة والمشردين.
ولا تتوقف مشكلة الدول الغنية على الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي؛ في معظم الدول الصناعية توجد عصابات مسلحة، تمارس كافة أنواع الجريمة المنظمة، ولديها مناطق تبسط سيطرتها عليها وتفرض فيها قوانينها الخاصة، بحيث لا تجرؤ الدولة على دخولها. وفي روسيا والعديد من دول أميركا اللاتينية، وبعض الدول الأوروبية توجد مافيات قوية، تشكل ما يمكن اعتباره حكومة ظل؛ لديها شبكة علاقات تمكّنها من ممارسة الإرهاب بكل أشكاله، والإتجار بالبشر، وترويج المخدرات.
لكن المشكلة لا تنحصر في المافيات الإجرامية؛ ففي أميركا وأوروبا ودول أخرى ثمة "مافيات أنيقة"، تعمل بغطاء رسمي، أو من خلال الأبواب المواربة، والثغرات القانونية، مستغلة شبكة علاقاتها العنكبوتية مع السلطة الحاكمة ومع وسائل الإعلام (وهي جزء من هذه المافيات)، أخطرها مافيات تجارة الأسلحة؛ التي لا تتورع عن إثارة القلاقل في دول العالم الثالث وافتعال أسباب الصراع وإدامته، وإراقة أنهر من الدماء مقابل ازدهار تجارتها. وكذلك مافيات صناعة الأدوية، التي تمتنع عن طرح أدوية ولقاحات مهمة يمكن لها أن تنقذ ملايين الأرواح، بل بالعكس لديها كامل الاستعداد لاختلاق أوبئة فتاكة، أو إثارة الرعب العالمي حول مرض عادي، أو تسويق أدوية مغشوشة خاصة في نطاق ما يسمى المساعدات الإنسانية، وأحيانا تحت مظلة منظمات دولية مرموقة، كل هذا من أجل الأرباح الخيالية التي تجنيها من عذابات الناس وأوجاعهم.
وأيضا مافيات الشركات النفطية والأسواق المالية، وتجارة الحبوب والمحاصيل الإستراتيجية التي تتلاعب بالبورصات العالمية وتتحكم بالأسعار، وتجني أرباحا طائلة على حساب الشعوب الفقيرة. ومافيات الصناعات الثقيلة والمشاريع العملاقة والشركات العابرة للقارات التي تنهب موارد وخيرات الشعوب الأخرى، وتنتهك القانون الدولي، وتدمر البيئة، وتلوثها، دون رادع.
أرباب هذه المافيات شخصيات لها وزنها في الدولة، وحضورها في وسائل الإعلام، ومنهم أعضاء كونغرس ونواب ووزراء، وشخصيات عامة.. يمارسون جشعهم دون وازع أو ضمير، وهم مسؤولون بشكل مباشر عن معاناة السكان وآلامهم، مسؤولون عن الحروب الأهلية، وعن الجائحات المهلكة، عن تقويض السلم الأهلي، وعن الجوع والمرض والكآبة، وتعريض مستقبل البشرية للخطر.
ولكن، في الجانب الآخر من المشهد، وتحديدا فيما يسمى دول العالم الأول، هنالك أنظمة ديمقراطية تعددية تضمن تداول السلطة بشكل سلمي وسلس، وتكفل حرية التعبير، في ظل نظام وقانون يسري على الجميع، وهناك تقدم صناعي وتكنولوجي، وبحث علمي، وخدمات صحية ورعاية اجتماعية وبنية تحتية متطورة، وبيئة نظيفة، كما توجد فيها طبقة وسطى عريضة تشكل أغلبية المجتمع، وفيها مدن وأحياء راقية، لا توجد فيها مشاكل تقريبا، يعيش سكانها بأمن وطمأنينة، يتعايشون مع أنفسهم بسلام، ويتواصلون مع العالم بقيم حضارية إنسانية، وقد أنتجت هذه المجتمعات العلماء والمخترعين والفنانين والفلاسفة والأدباء ممن كان لهم فضل وإسهامات في تطور الحضارة الإنسانية. دون أن نغفل عن حقيقة أن تلك المجتمعات الهانئة والمستقرة يعاني قليل أو كثير من أفرادها من الفراغ الروحي والجفاف العاطفي، ومن الملل والكآبة، وغيرها من أمراض العصر؛ بمعنى أن هذا المظهر المبهر لتلك الجِنان الظاهرة يخفي في ثناياه أشكالا عديدة من العذابات والقهر والمعاناة. ودون أن نغفل أيضا عن التجمعات العشوائية للمهاجرين، والجاليات، والأحياء المكتظة لذوي الأصول المختلفة، وما تعانيه تلك المناطق من تهميش وأزمات هوية مركبة، وتمييز عنصري.
بالنسبة للبلدان العربية والإسلامية فأغلبها تحكمها أنظمة استبدادية فاسدة، وتعاني من الفقر والتخلف وغياب العدالة الاجتماعية، ومصادرة حقوق المواطَنـَة، تكثر فيها مظاهر العنف، والتمييز الاجتماعي، وغياب سيادة القانون، الحريات شبه معدومة، تسود فيها الفوضى والمحسوبية والعقلية القبلية والنزعات الطائفية، وبالطبع هذا المشهد القاتم يتفاوت من بلد لآخر.
صحيح أن البلدان العربية تخلو تقريبا من الجريمة المنظمة، لكن هذا لا يعني أنه لا تقع فيها جرائم مروعة. وصحيح أنها تخلو أيضا من المافيات كما هو الحال في الدول الغنية؛ إلا أن هذا لا يعني أبدا أن الطبقة الحاكمة والنخب المسيطرة تقل فسادا عن تلك، لكن فسادها يتخذ أشكالا أخرى.
وبالرغم من ذلك، في وسط هذا الجحيم، ثمة جنان صغيرة، لكنها مهمة؛ حيث ترابط الأسرة الممتدة، ودفء العاطفة، وحميمية العلاقات، وعفوية الناس، ومقابل هذه الحسنات وجه آخر: التطفل، والتدخل في شؤون الغير، وفقدان الخصوصية وتسلط الأب، وتهميش المرأة.
إذاً، أمام هذه الصورة المربكة والمعقدة، السؤال المطروح: أين يمكن أن نعيش!؟ ببساطة، لكل مجتمع ونظام مساوئه وحسناته، وأحيانا، في هذا الزمن العصيب يكون الاختيار بينها كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومع هذا؛ أينما كنا، فإن السعادة الحقيقية مختبئة تحت أقدامنا، وكل ما علينا هو أن نجدها، ونعيشها بالفعل.
في رواية الخيميائي، عندما سافر "سنتياغو" بحثا عن كنزه وحلمه، نصحه والده: "سافر حتى ترى أن قلعتنا هي الأعظم وأن نساءنا هنّ الأجمل". ليكتشف أخيرا أن الكنز كان تحت قدميه، وأن السعادة في الرحلة نفسها، واكتشافاته، وحكمته التي اكتسبها.