منذ أن صدح المتنبي بأبياته الشهيرة "عيدٌ بأيِّ حالٍ عدتَ يا عيد"، ونحن الفلسطينيون نشعر وكأن هذه القصيدة قد كتبها أبو الطيب خصيصاً لنا، حتى قبل مأساتنا بأكثر من ألف عام!!
منذ مائة عام تقريباً، والفلسطينيون يتعرضون للاضطهاد، ولا تقف مأساتهم عند الجرائم التي وقعت في عهد الانتداب البريطاني، ووحشية الاحتلال الإسرائيلي، بل تجاوز الأمر إلى "ظلم ذوي القربى"، حيث لا تنتهي فصول تغريبتنا الفلسطينية في الوطن والشتات، ولا تتوقف فصول المعاناة وصورها كما شاهدنا في مخيم اليرموك مؤخراً، وقبله ما جرى لجاليتنا في الكويت في أوائل التسعينيات، وحتى في الأردن مطلع السبعينيات.. ففي كل عام، هناك مشاهد قتل وعدوان وجرائم حرب تقوم بها إسرائيل، حيث تنفتح معها المواجع والأحزان، وتتفجر الذكريات.
لذلك، لا نجد في كل عيد إلا ترديد ذلك البيت لمواساة أنفسنا: "بأيِّ حالٍ عُدت يا عيد".!!
حاولت طوال سنوات طفولتي وشبابي البحث عن محطات سعادة في حياتنا يمكن التغني بها، وصياغتها ألحاناً، فلم أستطع إلا تذكر أعوام الغربة والرحيل، والتي كنت خلالها بعيداً عن أسرتي وأهلي، وكانت الحياة فيها بطعم آخر من المرارة والحرمان. أكثر من ثلاثين سنة عشتها في بلادٍ بعيدة طلباً للعلم والاستقرار، ولكنَّ المخيم ووجوه الأهل والأولاد كانت تعشعش في داخلي، وتجعلني أستحضر أشعار عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان وشقيقته فدوى، وأغنيات مهدي أبو سردانة "أرض أبويا ياخي هي أغلى شي من ورا المنطار"، وأشعار أحمد دحبور وفرقة العاشقين، وأناشيد الثورة الفلسطينية وأزجال الراحل العظيم منشد الثورة إبراهيم محمد صالح (أبو عرب)، وكلماته الحانية التي تذكرنا بكل شيء جميل في وطن الآباء والأجداد، وكانت تأسر القلب وتواسيه.
ربما الوحيد الذي يجد في العيد بعض الفرحة هم أولئك الأطفال الذين لم يقرأوا صفحات التاريخ بعد، ونشأوا في المخيم، وتعودوا على أزقته وحواريه، ولم يشاهدوا في حياتهم غيره، فهو جنتهم التي يقتنصوا كلَّ لحظات المرح فيه.
في أيام العيد، تزورنا الدموع على غير العادة، وتأخذنا في ذكرياتها إلى أحبة فقدناهم، ليس بمراسم موت عادية، ولكن بطقوس الشهداء التي تحفر في الذاكرة مشاهد لا يمكن أن تغيب، وتأتي لتشاركنا العيد، وتعيش معنا تلك اللحظات، التي نسرح فيها بتذكار أعزة علينا قضوا شهداء؛ دفاعاً عن هذا الوطن أو سقطوا ضحايا العدوان.
الفلسطيني دائماً في عينيه دموع حبيسة تستوطن مقلتيه، وفي العيد تتحرك المواجع والذكريات فتنساب حرَّى على وجنتيه، وقد يلفت نظر الأبناء والأحفاد من حولك شيءٌ من هذا، ويتسألون بغرابة: لماذا هذه الدموع، واليوم هو يوم عيد وفرحة؟!
في العيد تتذكر أخوتك الشهداء ووالديك وبعض الأصدقاء، الذين غابوا ولم يعودوا إلا ذكرى تستيقظ لتعيشها من حين لآخر.. إخوتك الذين تفرقوا في البلاد، ولم تجمعكم صورة واحدة يوماً ما؛ لأن جغرافيا اللجوء فرضت حتميتها، فهاجر كل من استطاع إلى ذلك سبيلاً.
رحل أبي وأنا بعيدٌ عن بلادي، وغادرت أمي (رحمها الله) وأكثر أولادها بعيداً في الغربة، ويأتي العيد وكل ما نستطيع فيه التعبير عن وحدة العائلة هو تلك الاتصالات التي نجريها أو الصور التي نتداولها عبر الجوال والفيسبوك، للتعبير للأولاد بأن شجرة العائلة ما تزال قائمة على أصولها؛ فهناك عمو وخالو، وعمتو وخالتو، ولكن في بلاد بعيدة؛ في أمريكا والجزائر والهند...الخ
ليس من السهل على شخص مثلي تحتضن ذاكرته كل هذه الصور والمشاهد، التي تجمعت على مدار أكثر من ستة عقود بكل أوجاعها ومآسيها، أن يحبس دموعه أو يُطوِّق مقلتيه فلا تنهمر منهما الدموع، إنها لا بدَّ منها حتى يشعر القلب بالراحة والاطمئنان، إنها التعبير عن المحبة والوفاء، لمن غادروا حياتنا أو غابوا عنها من الأخلَّاء.
يوم العيد، تبتسم عندما ينظر الأطفال إليك، فتتشكل بذلك لوحة تتعانق في ملامحها التعبيرية الدمعة مع الابتسامة.. مشهدٌ للوجه الفلسطيني الذي يخفي كل أوجاعه وتجاعيد الألم خلف لحظة فرح عابرة يجامل فيها عياله أو وجوه أحفاده.. تلك اللوحة التي لم تجسد قسماتها التعبيرية بعد ريشة أعظم فنانينا وأشهرهم، الأساتذة: إسماعيل شموط وفتحي غبن والدكتور عبد الرحمن المزين أو سمير منصور.
نعم؛ قد يكون المسرح جسَّد مثل هذه المشاهد أو بعضاً منها، ولكنَّ اللوحة الفنية لتراجيديا الفلسطيني وتغريبته لم تكتمل بعد؛ لأن مسلسل التشريد والغربة لم تنته فصوله، وما زال هناك بقية.
في الحقيقة، تعودنا أن نُعلِّق كل مآسينا على شماعة الاحتلال، في الوقت الذي يتذكر فيه الناس - اليوم - في غزة أن انفراج أحوالهم إنما كان في زمن الاحتلال!!
أحوالنا السياسية: الغُصَّة والوجع
الناس في العيد تتزاور برغم حالة الفقر والمسغبة، ولسان حالها يقول: هل إلى خروج من سبيل؟ أليس في هذا الوطن رجل رشيد؟ ألم ينظر هؤلاء القادة حولهم ويتعظوا بما جرى في البلاد من حولنا، حيث أهلكت الصراعات الطائفية الحرث والنسل، واستباحت الكثير من كيانات الأمة وغيَّبت فيها الأمن والاستقرار؟ ألم يأن وهذه الكوارث تحوطنا من كل جانب أن تصحو قيادتنا السياسية؛ السلطة وحركة حماس، وأن يشعرونا بأنهما على بصيرة من أمرهم، وأنهما يدركان حجم الأخطار التي تحيق بنا، وتتهدد ما تبقى لنا من ديار؟!! لماذا يبدو المشهد وكأنه حالة من العجز والمكابرة والزعرنة السياسية ليس إلا؟
ماذا ينتظرون، وعلى ماذا يراهنون ؟! فالسنوات تمضي قاسية في لأوائها علينا، ومن بيدهم مقاليد الأمور في غيِّهم يعمهون!! لماذا لا نشهد تلك المعاني الكبيرة التي تربى عليها شعبنا العظيم من التآخي والتغافر والمؤازرة والتحمل وشدِّ الأزر، وتوطئة الأكناف، لماذا كل هذا العناد و"التناحة السياسية" التي لا نجد لها تفسيراً هنا أو هناك؟! إن رسالة شعبنا الصابر المحتسب لمن توسدوا رقابه: لقد فقدنا الثقة بكم جميعاً، ويكفيكم قراءة فاحصة في استطلاعات الرأي لتدركوا ذلك.
ارحمونا.. فقد أوجعنا العذاب، أضعتم بتفاهاتكم السياسية مستقبل أجيالنا القادمة، وأوصلتمونا إلى الحضيض، كسرتم فينا النخوة، وأضعفتم رجولتنا، وصارت خيول معظم الرجال لا تصهل، لم نعد ذلك الشعب – برغم عظمتنا – القادر على تحمل المزيد من تُرهاتكم في الأمن وفي السياسة.
عيدنا يا سادة حزين؛ لأنكم نفس الوجوه التي نُطالعها ونسمعها منذ عشر سنين أو يزيد، وليس عندكم لنا من جديد..
كم هم الذين كتبوا لكم بلغة ارحمونا، ولكن آذانكم لم يعد يوجعها ما تسمع من صراخٍ وأنين!! لقد أضعتم البلاد والعباد، وصارت كراسيكم مقصداً للطامحين والزهاد!! ماذا تنتظرون منَّا صبراً أكثر مما قدَّمنا، فلم يعد في الحشا موطن لوجع جديد.
ارحمونا.. أيها القادة والزعماء، لقد اتعبتنا خوازيق حكمكم، ولم يعد في قوس صبرنا من منزع، فلأجل هذا الكُرسيِّ اللعين يضيع الوطن، وتُدنَّس المقدسات، ونحتضر مع سلاحنا في الثكنات.
وتسألون - يا سادة - لماذا وجوهنا كالحة مكفهرة؛ لأنكم أفقرتموها، وأذهبتم طهارتها، لأنكم لم تحفظوا كرامتها، لأن "الكابونة" اليوم هي الهوية، وهي الوطن والقضية!!
ارحمونا.. اذهبوا بنا إلى الانتخابات، فلعل الله يأتي لنا - بأصواتنا - من يأخذ بأيدينا ويجمع شتات شملنا، ويضع حداً لهذا الانقسام البغيض والحصار الظالم، ونجد معه الخلاص والفتح المبين.
هل عرفتم – يا سادة - لماذا ليس هناك في عيدنا غير الحُزن من طلة ؟! هل عرفتم لماذا أوجاعنا أصبحت مزمنة؟ وأحلامنا تتحطم على المعابر والحدود؟ حيث تداس الكرامة وتُمتهن القامات.
سيمفونية الرحيل: بين أدب الخطاب ورغبات التغيير
يا سيادة الرئيس.. يوجعنا والله أن نقول لك: ارحل.. ونحن نشهد أن هناك من يتآمر عليك، ليأخذ مكانك، ويطوي صفحتك، ولكن في ظل هذا الواقع المزري، وعجزك لعقد من الزمان عن تحقيق وحدتنا وإنهاء الانقسام، الأمر الذي يجعلنا نصرخ في وجهك، ووجه كل من هم وراء هذا العجز والفشل: بالله عليكم ارحلوا عنَّا، وساعدونا بتهيئة البدائل حتى نُبقي لكم ذكرى.
وعليه؛ نكرر الرجاء لكل من بيدهم مقاليد الأمور، ومجامع الكلم، ولديهم مقامع من حديد: ارحمونا.. فقد أُفرغت الخِصى بعد طهي الحَصى، حتى سيوفنا أوشك الصدأ أن يبطل فعلها، ونخوتنا غدت على المحك، وبهتت نداءات "طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع".. ومع تقديرنا للمقاومة، وزندها الذي لا يغفل ولا ينام، إلا ان الشعب المنقسم على نفسه يظل انتصاره موضع تساؤل، ويطرح أكثر من علامة استفهام .
من حقنا ونحن نوجه النقد للمستويات القيادية من السياسيين، أن نقدم الشكر للمرابطين على الثغور، وأن نحيي المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، الظاهرة الأنبل في تاريخ قضيتنا، وهي تاج عزتنا، وأيقونة الفخر لنضالات شعبنا، سعداء بهم وبإمكانياتهم في تطوير قدرات شعبنا في الدفاع عن نفسه، وإبقاء غزة منطقة حرة ومقبرة للغزاة .
مبادرة الرئيس: الحقيقة والادعاء
قبل عدة أيام، تحدث الأخ عزام الأحمد قائلاً: إن "الرئيس عباس طالب عبر الوسطاء القطريين والأتراك حماس بالقبول بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، على أن يتم حل القضايا العالقة بين الطرفين بعد ظهور نتائجها"، لافتًا إلى أن "حركة فتح مستعدة للمصالحة ولقبول نتائج الانتخابات"، وأضاف الأحمد أنه "لا يمكن ربط مصير الوطن بقضية موظفي حماس، والذين فجّر الخلاف حول مصيرهم جولة الحوار الماضية بين الحركتين، مشددًا على أن حماس تختلق الأعذار والمشكلات في مختلف لقاءات المصالحة".
هذا الكلام كان بالإمكان الأخذ به لو أننا لمسنا جدية في هذا الاتجاه، ولكن الحقيقة التي لا تغيب عن عين المراقب البصير أنهم فقط يماطلون، ولا يريدون الوصول لتسوية تنهي الخلافات القائمة.. لو صدقوا لمنحوا جهة فلسطينية تمثل طرفاً ثالثاً أحقية الحكم بين طرفي الأزمة والخلاف، وتركوا لها حق الفصل بينهم.
لماذا غيَّبوا الإطار القيادي المؤقت وعطلوا قيام أي دور له؟! لماذا الإصرار على أن تبقى لقاءات المصالحة طي الكتمان، ولا نشاهد إلا تبادل الاتهامات بالمسئولية عن الفشل؟! هل حقاً يريدوننا أن نذهب للانتخابات والقبول بنتائجها؟! من يا ترى الذي يعترض على ذلك ؟! أنا أعلم أن حماس لا اعتراض لها، ولكن تعالوا نرتب أمر إجرائها إن كنتم صادقين؟
إذا كنتم عاجزين عن إجراء انتخابات بلدية بسيطة، فكيف بكم إجراء انتخابات بحجم الوطن؟! إذا صدقتم في رغبة إجراء الانتخابات التشريعية، فليسبقها إجراء انتخابات للاتحادات الطلابية والنقابات المهنية والمجالس البلدية، حتى يكون برهان الرؤية ساطعاً، وتتحقق القناعة بأن الكراسي يمكن تحريكها وتدوير الوجوه.
إذا نجحتم في ذلك، عندئذ يمكننا أن نطمئن لكم، وأنكم تريدون لنا – حقاً - النجاة والخلاص.
يا سيادة الرئيس.. ويا أصحاب المعالي.. أيها الزعماء والقادة؛ سياسيين وعسكرين، كل عام وأنتم بخير، فقط نذكركم بشعبكم في هذه المناسبة التي ننتظر سعادتها منذ أكثر من ستة عقود، ولا يبدو أن هناك في الأفق ما يبشر بفرج قريب.
عجزنا أن نأتي ببيت أجمل من القصيد، ولكننا لم نعثر على جديد، ويبقى أبو الطيب المالك الحصري لتعبيراتنا عن وصف أحوالنا الحزينة في العيد؛ بأيِّ حالٍ عُدت يا عيد ؟!
ختاماً.. أتمني على إخواننا في قيادة حركة حماس؛ الأخ خالد مشعل والأخوين إسماعيل هنية وعزيز دويك أن يباشروا الاتصال بالأخ الرئيس (أبو مازن) وتهنئته بالعيد، فلعل "دبلوماسية التهنئة" تنجح فيما أخفقت فيه مسارات الآخرين وجهودهم.
ويبقى لسان حال أوجاعنا ما قاله الشاعر: هـذا هـو العيـدُ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ ؟ ضاقـتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟! وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـتْ مـلامحُـهـم، مَـنْ في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا؟